كيف نكون بعين الله ؟



{واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا*وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}.. إن هذه الآية فيها التفاتات مؤثرة وعميقة، وتذكرنا بقضية موسى عليه السلام.. هناك آيه تعلق على نبي الله موسى عليه السلام، أثارت اشتهاء الكثيرين من أولياء الله، والسالكين إلى الله عز وجل.. فغاية منى السالكين إلى الله عز وجل، أن يصلوا إلى درجة يكونوا بعين الله، ويكونوا تحت رعاية الله.. فالله عز وجل اتخذ موسى (ع) كليما، مع ما لهذه الرتبة من خصوصيات مذهلة.

إن من المقامات التي اختص الله بها موسى عليه السلام، رتبة الاصطناع {واصطنعتك لنفسي}.. إن الوجود كله طوع أمرالله عز وجل، يقول له: كن!.. فيكون..كل شيء خاضع له، ولكنه يحب أن يتخذ من أوليائه عبادا يكونوا لنفسه.. هؤلاء هم المجهولون قدرا.. فمن وساوس الشيطان أن يقول للإنسان: ما هو قدرك في الخلق؟.. هب أنك تعاليت في الدرجات العليا!.. وإذا لم يكن لك تأثير اجتماعي، فما قيمة هذا التعالي والعلو الروحي؟..

فعلينا أن لا ننسى مرحلة الاصطناع عند الله عز وجل، وهي أن يكون الإنسان مصطنعا في عين الله عز وجل، وأن يكون كبيرا في عين الله عز وجل، وأن يكون مرضيا عند الله.. وإن لم يعترف به أحد من البشر، وإن كان من الذين جهل قدرهم لأبعد الحدود، فالحديث بما مضمونه: (أنا عند المندرسة قبورهم، والمنكسرة قلوبهم).. فالإنسان المؤمن لا يهمه الصيت، ولا التأثير الاجتماعي.. فإذا أراد الله عز وجل، يفتح له سبيل التأثير في الناس.. وقد يصطفيه لنفسه، ويلقي عليه عمدا عنصر الكتمان والجهالة، ليبقى مجهولاً بين الناس.. ولهذا أُمرنا أن لانحتقر أحداً، فلعله الولي عند الله عز وجل.. إذاً فإن رتبة الاصطفاء، ورتبة الاصطناع، ورتبة الكون على عين الله عز وجل، من الرتب الجليلة التي لا تقاس بها حتى رتب الجنة المادية.

{واصبر لحكم ربك فانك بأعيننا}.. قد نفهم من الآية أن الطريق إلى الله عز وجل محفوف بالمكارة.. فبالاضافة إلى لذة القرب والأنس هناك تبعات وعقبات، لابد من تجاوزها.. وعليه، فالذي يريد أن يكون بعين الله، عليه أن يصبر على حكم ربه.. ومن المعلوم أن المؤمن كلما زيد في إيمانه، زيد في بلائه.. فهي بمثابة العاصفة التي تدفعهم للالتجاء إلى الله عز وجل، فحياة المؤمن بين عسر ويسر، والنبي (ص) سأل الله الكفاف، ليصبر يوما، ويشكر يوما.

إن الذي يريد أن يكون بعين الله عز وجل، عليه أن يسلب من نفسه كل إرادة.. فالإنسان الذي تكون لديه إرادة ويحب أن يصل إلى الله عز وجل بتخطيطه هو، فإن هذا ليس من التكامل في شيء.. وقد قيل: إن البلاء وزع على الأولياء بدرجاتهم، الأمثل فالأمثل.. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبر الأولياء، فلم يبتلَ نبي بمثل ما ابتلى النبي صلى الله عليه وآله.. وعمدة بلائه كان في نفسه، بلاء التعذيب النفسي، الذي عاشه النبي (ص) إلى آخر ساعات حياته، عندما طلب منهم الكتاب ليكتب لهم ما إن تمسكوا به لن يضلوا بعده.

{وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}.. إن المؤمن مشغول بالتسبيح من الصباح إلى المساء.. ولكن لماذا هذا التأكيد على التسبيح؟!.. لأن التسبيح فيه تحميد وتنزيه من كل نقص، وهذا حمد ومدح له سبحانه.. فالمسبح المنزه كأنه يلغي كل اعتراض باطني.. فالإنسان المؤمن قد يعيش حالة اللا تسبيح، ويتهم الله في قضائه، هو مستسلم وصابر لحكم ربه، ولكنه يعيش في أعماقه حالة عدم الرضا.. وبالتالي، فإن هذا غير مسبح، ولم ينزه الله حق التنزيه، فهو يتهمه لا شعوريا بأنه غير روؤف، وغير حكيم، وغير لطيف.. إن أحدنا عندما تأتيه البلية، ويتمنى في قرارة نفسه لو لم تأتيه هذه البلية المقدرة منه سبحانه.. فكأنه يقول لربه -سواء اعترف بذلك، أم لم يعترف-: يارب!.. لو لم تفعل، لكان أفضل، وأحكم.. وهذا هو معنى عدم التنزيه، وعدم التسبيح الحقيقي.. لذالك من معاني التسبيح أنه يحول الإنسان المؤمن إلى موجود إيماني لا يعيش أدنى درجات التبرم بالقضاء والقدر في سويداء قلبه.. فهو يحب كل ما يأتي من الله عز وجل، وإن كان مكروها لديه.. ومن هنا التسبيح الحقيقي، يدفع كل هذه الآفات الباطنية.

إذا أراد المؤمن أن يصل إلى مرحلة الكون بعين الله عز وجل، عليه أن يتبرأ من كل حول ومن كل قوة، ويكون بين يدي الله سبحانه كالعبد المملوك، الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.. وعلماء الأخلاق قالوا: هناك فرق بين الإنسان المريض الذي بين يدي الطبيب، وبين الميت الذي بين يدي الغسال.. فالطبيب قد يضطر إلى الكبس على عضو من الأعضاء، والعضو مؤلم، فالمريض يرفض، أو يتأفف ويصبر على مضض.. ولكن الميت يقلبه يمينا ويسارا، ويهيل عليه التراب، وهو لا يتكلم بكلمة واحدة.. ولهذا فإن المؤمن إذا وصل إلى مرحلة الموت (موتوا قبل أن تموتوا) فإنه يتحول إلى ميت بين يدي الله عز وجل.. وفي هذا الموت تمام الحياة