أثر القرآن على المؤمن




عندما نتتبع أثر كلام الله ( القرآن ) فيمن سمعه وتدبره من البشر فإننا نجد ان أول من يتأثر بكلامه هم من تلقوه ، وكلفهم الله ببلاغه للبشر ، وهم الأنبياء والرسل ، ولذلك يقول سبحانه ، بعد ان تحدث عن من الأنبياء والرسل في سورة مريم: ( أولئك الذين أنعمَ اللهُ عليهم من النبيينَ من ذريةِ آدمَ وممّن حملنا معَ نوحٍ ومن ذُريةِ إبراهيم وإسرائيلَ ومِمَّن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمانِ خرُّوا سُجَّداً وبُكياً ) 


فهؤلاء إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة ، حمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة ، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم ، واتباعا لمنوالهم 


أولئك النبيون ، ومعهم من هدى الله واجتبى من الصالحين من ذريتهم صفتهم البارزة : ( إذا تُتلى عليهم آياتُ الرَّحمنِ خرُّوا سُجداً وبُكياً ) فهم أتقياء ، شديدوا الحساسية بالله ، ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من تأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ، ويخرون سجداً وبكيا 


والسجود هو حركة ظاهرية ، تعبر عن أعلى وأصدق درجات الانقياد والاستسلام والتذلل لله ، وأما البكاء : فهو تنفيس عن انفعالات داخلية شديدة يعجز صاحبها عن التعبير عنها ، فتعبر عيناه بالدمع ، وكان نبينا محمد صل الله عليه وآله وسلم أول المتأثرين بالقرآن الكريم ، تأثرا باطنيا وظاهريا وكفى سلوكه شاهدا على ذلك وبرهانا عليه 

كان صل الله عليه وآله وسلم يحرص على أن يغرس في اتباعه من المسلمين التأثر بالقرآن عند تلاوته ، فقد أمر المسلمين بالبكاء عند تلاوته ، فإن لم يجدوا بكاء فليتباكوا ، وامتثل المؤمنون لتوجيه الرسول صل الله عليه وآله وسلم ففتحوا اذانهم وقلوبهم لآيات الله 


وقد حاز المؤمنون عند ربهم درجة سامقة رفيعة لتأثرهم بكتاب ربهم ، تأثرا عمليا صادقا ، له نتائجه في واقع حياتهم وحياة مجتمعهم ، يقول سبحانه وتعالى: ( إنّما المؤمنونَ الَّذينَ إذا ذُكرَ اللهُ وجِلت قُلُوبهُم وإذا تُليت عليهم آياتهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربِهِم يتوكّلون ) 


ولكن ما هي حقيقة التأثر بذكر الله وتلاوة القرآن ؟


إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر الله في أمر أو نهي ( في القرآن ) ، فيغشاه جلاله ، وتنتفض فيه مخافته ، ويتمثل عظمة الله ومهابته ، إلى جانب تقصيره ، فينبعث إلى العمل والطاعة 


القلب المؤمن سادتي يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانا وما ينتهي به إلى الاطمئنان فالقرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة ولا يحول بينه وبينه شيء ، ونتيجة هذا التأثر واضحة جلية في سلوك المؤمنين ونهج حياتهم ، فهم ( على ربهم يتوكلون ) ( أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون إنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن 


اطمئنان القلوب مرحلة تأتي بعد إيمان عميق ، وسماع واع ، وتدبر للقرآن دقيق ، فإذا عاشت القلوب على هذا المنوال تصل إلى مرحلة من الاطمئنان إلى وعد الله في كتابه ، لا تحركه الزلازل ، وإلى درجة من الرقة والحذر والخوف من وعيد الله تجعلها تسجد وتخشع وتبكي لمجرد سماعه 


إنها القلوب المطمئنة التي بلغ فيها القرآن مبلغا من التأثير، فقال سبحانه وتعالى واصفا إياها : ( الَّذينَ ءامَنُوا وتطمئنُّ قلوبُهُم بذكرِ اللهِ ألا بذكرِ اللهِ تطمئنُّ القُلوبُ ) إن النفس الإنسانية تحتاج إلى الاطمئنان في الأمور الهامة 

فهي تريد الاطمئنان عما بعد الحياة . 

فماذا بعد هذه الحياة ؟ 


يجيب القرآن سادتي 

( ثمَّ إنّكُم بعد ذلك لميتونَ ، ثمَّ إنَّكُم يومَ القيامةِ تُبعثونَ ) ويوم القيامة يتميز الناس ، ( فأمّا من أُوتيَ كتابَهُ بيمينهِ فيقولُ هآؤمَ اقرءوا كتابيه إنّي ظننتُ أنّي مُلاقٍ حسابيه ، فهو في عيشةٍ راضيةٍ ، في جنّةٍ عاليةٍ ، قطوفها دانيةٌ ، كُلُوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتُم في الأيامِ الخالية ، وأمّا من أُوتيَ كتابَهُ بشمالهِ فيقولُ ياليتني لَم أُوتَ كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه ، ياليتها كانتِ القاضيةَ ما أغنى عني ماليه ، هلك عنّي سُلطانيه خُذوهُ فغُلُّوه ثمَّ الجحيم صلُّوه ، ثمَّ في سِلسلةٍ ذرعُها سبعونَ ذراعاً فاسلُكُوه ، إنّهُ كان لا يؤمنُ بالله العظيمِ ولا يحُضُّ على طعامِ المسكينِ ، فليس له اليوم هاهُنا حميمٌ ولا طعامٌ إلاّ من غسلينٍ ، لا يأكُلُهُ إلاّ الخاطئونَ ) 


هكذا يجيب القرآن على هذا التساؤل الداخلي في النفس الإنسانية ، فيضع أمامها الحقائق في يسر وسهولة وتأثير بالغ ، فتطمئن إلى ما تعمله إن كان خيرا فحساب ثم جنة . وإن كان شرا فحساب ثم نار 


تلك حقائق خالية من التعقيد الفلسفي ، تجعل القلب يطمئن في هدوء إلى ربه والنفس تريد الاطمئنان على الرزق ، وقد طمأننا الله في قرآنه على ذلك فقال: ( وفي السَّماء رزقُكُم وما توعَدون ، فوربِّ السماءِ والأرضِ إنّهُ لحقٌ مثل

 ما أنَّكُم تنطِقونَ ) وتريد النفس أن تطمئن على العمر وقضية البقاء ، والعدم ، والموت ، والابتلاءات ، فيحسم القرآن كل ذلك في كلماته السهلة الميسرة المؤثرة ، فيقول سبحانه : 


( قُل لن يُصيبنا إلاّ ما كتبَ اللهُ لنا ) وقوله تعالى

(ما أصابَ من مُّصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفسكُم إلاّ في كتابٍ من قبل أن نَبرأها إن ذلك على الله يسير لِكيلا تأسَوا على ما فاتَكُم ولا تفرَحوا بما ءاتاكُم ) ، وقوله سبحانه تعالى : ( فإذا جآء أجَلُهُم لا يستأخِرونَ ساعةً ولا يستقدمونَ )


فلماذا إذن لا تطمئن النفس الإنسانية بذكر الله ؟ 

ولماذا لا يترك القرآن فيها آثاره ، فيكسبها راحة وهدوءاً وسكينة ؟ 

وإن ذلك لا يكون إلا للذين آمنوا به أولا 


يزداد أثر القرآن في النفوس المؤمنة ، فيجعلها طيعة لأوامره منقادة لإشارته ، مستلهمة لمعانيه ، تخشع أجسادهم في سجود ، وتلهج ألسنتهم بذكر الله ، وتتفطر أقدامهم في قيام الليل والناس نيام ، وتفيض نفوسهم قبل أيديهم بالإنفاق في سبيل الله ، يقول سبحانه : ( إنّما يؤمنُ بآياتنا الَّذينَ إذا ذُكّروا بها خرُّوا سجداً وسبحوا بحمدِ ربّهم وهُم لا يستكبرونَ تتجافى جُنُوبُهم عن المضاجع يدعونَ ربَّهُم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهُم يُنفقونَ )