ما الذي أخفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نفسه ؟



قال تعالى : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) (1)

يخاطب الله سبحانه نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قائلا له « و إذ تقول » أي و اذكر يا محمد حين تقول « للذي أنعم الله عليه » ـــــ وهو زيد بن حارثة (2) ـــــ بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إليك « و أنعمت » أنت « عليه » بعتقه بعد العبودية وتبنّيه بعد ان تبرأ منه ابوه ,فتقول له : « أمسك عليك زوجك » يعني بـ( زوجك ) « زينب بنت جحش » تقول احبسها وابقها في ذمتك و لا تطلقها ولا تفارقها « واتق الله » في مفارقتها و مضارتها « و تخفي في نفسك ما الله مبديه و تخشى الناس والله أحق أن تخشاه » 

هنا يرد سؤال هو مهم : 

ما الذي أخفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في نفسه ؟؟؟

أن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه لما أعلمه من علوم الغيب بأن (زينب بنت جحش ) ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها , فلما جاء زيد و قال له أريد أن أطلق زينب , قال : ( له أمسك عليك زوجك ) , فقال سبحانه : لِمَ قلت أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك روي ذلك عن علي بن الحسين (عليهما السلام) .


فلو كان الذي أضمره محبتها ووقوعها في قلبه ـــــ كما فهمه البعض من المفسرين ـــــ أو أنه كان يرغب بتطليقها لأظهر الله تعالى ذلك مع وعده بأنه سيبدي ما أخفاه النبي (صلى الله عليه وآله) , وحاشا لله سبحانه أن يخلف الوعد او يظهر خلاف ما وعد باظهاره , فدلّ ذلك على أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما عوتب على قوله « أمسك عليك زوجك » مع علمه بأنها ستكون زوجته و كتمانه ما أعلمه الله به استحياءا حيث أنه استحيا أن يقول لزيد أن التي تحتك ستكون امرأتي فقد كان (صلى الله عليه وآله)كثير الحياء حتى أنه (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه يوم فتح مكة و قد جاءه عثمان بعبد الله بن سعد بن أبي سرح يستأمنه ـــــ اي يطلب له الأمان ـــــ منه (صلى الله عليه وآله) و كان (صلى الله عليه وآله) قبل ذلك قد أهدر دمه وأمر بقتله فلما رأى عثمان استحيا من رده و سكت طويلا ليقتله بعض المؤمنين ثم آمنه بعد تردد المسألة من عثمان و قال : ( أما كان منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا فيقتله ) 

فقال له عباد بن بشر : يا رسول الله إن عيني ما زالت في عينك انتظار أن تؤمي إلي فأقتله , فقال (صلى الله عليه وآله) : ( أن الأنبياء لا تكون لهم خائنة أعين فلم يستحب الإشارة إلى قتل كافر و إن كان مباحا ).

و لم يُرِد سبحانه بقوله تبارك تعالى « و الله أحق أن تخشاه » خشية التقوى لأنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يتقي الله حق تقاته و يخشاه فيما يجب أن يخشى فيه , و إنما أراد خشية الاستحياء لأن الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما قال سبحانه « إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم » (3) .

وقيل :أن خشيته (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة، و هذا الخوف - كما ترى ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه. (4) والآية الكريمة جاءت لنسخ سنة كانت في الجاهلية حيث أن العرب كانوا ينزلون الأدعياء منزلة الأبناء في الحكم فأراد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يبطل ذلك بالكلية و ينسخ هذه السنة فكان يخفي في نفسه تزويجها لهذا الغرض كيلا يقول الناس أنه تزوج بامرأة ابنه و يقرفونه بما هو منزه عنه و لهذا قال « أمسك عليك زوجك » .

اما قوله « فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا » فمعناه فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقها (5) و انقضت عدتها و لم يكن في قلبه ميل إليها و لا وحشة من فراقها فإن معنى القضاء هو الفراغ من الشيء على التمام .

ثم قالت الآية « زوجناكها » أي أذنّا لك في تزويجها و إنما فعلنا ذلك توسعة على المؤمنين حتى لا يكون عليهم إثم في أن يتزوجوا أزواج أدعيائهم الذين تبنّوهم إذا قضى الأدعياء منهن حاجتهم و فارقوهن فبين سبحانه أن الغرض في ذلك أن لا يجري تحريم امرأة المتبنّى إذا طلقها على من تبنّاه وان ذلك الحكم مختص بتحريم زوجة الابن من النسب او الرضاع ( اي الابن النسبي او الابن بالرضاع ) (6) على الأب .

ثم قال سبحانه « و كان أمر الله مفعولا » أي كائنا لا محالة.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ

(1) ( الاحزاب /37 )

(2) القمي عن الصادق عليه السلام قال كان سبب ذلك أن رسول الله لما تزوج خديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ورأى زيدا يباع ورآه غلاما كيسا حصيفا(اي مكتمل العقل) فاشتراه فلما نبئ (رسول الله صلى الله عليه) وآله دعاه إلى الأسلام فأسلم وكان يدعى زيد مولى محمد صلى الله عليه وآله فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة وكان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك نسأله إما أن يبيعه وإما أن يفاديه وإما أن يعتقه فكلم أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (رسول الله صلى الله عليه وآله): ( هو حر فليذهب حيث شاء) فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له يا بني إلحق بشرفك وحسبك فقال زيد لست افارق رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا فقال له أبوه فتدع حسبك ونسبك وتكون عبدا لقريش؟ 

فقال زيد لست افارق رسول الله ما دمت حيا فغضب أبوه وقال يا معشر قريش اشهدوا إني قد برئت منه وليس هو ابني 

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ( اشهدوا أن زيدا ابني أرثه ويرثني) فكان يدعى زيد ابن محمد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحبه وسماه زيد الحب .


(3) (الاحزاب /53 )

(4) ( تفسير الميزان ج16 ص171 )

(5) تنقل بعض الروايات ان زيدا طلقها لان فيها كِبَرا وكانت تؤذيه بلسانها .

(6) ( المقصود بالابن النسبي هو ابن الابن وابن البنت واولادهم واولاد اولادهم وهكذا . اما الابن الرضاعي فهو الذي ارضعته زوجة الرجل ومع توفر شروط الرضاع يصبح المرتضع ابنا بالرضاع لذلك الرجل .