بَلَاغَةُ التِكْرَارِ تُشْرِقُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ


أنزل الله _ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى _ القرآن الكريم على نبيه المصطفى (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ)، لينقذ الإنسانية كافة، و ينقلهم من الجاهلية إلى الإيمان، حيث رضوان الخالق _ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى _ على مجتمع عادل تسوده المحبة و النظام، و لقد بُنِيَ القرآن الكريم بناءً فنيَّاً ينسجم و الفطرة التي فطر اللهُ الناس عليها، و الإنسان مفطور على إعادة الكلام الذي يهتّم به، فكم من مرة تكرر الأمهات على مسامع أبنائهن نصائحهن.. بهدف أنْ تحتفظ ذاكرة الأبناء بنصائح أمهاتهم الحريصات على سعادتهم و دفع الشرِّ عنهم.... و لقد جرى القرآن الكريم على هذه السنَّة، فكان التكرار في بعض آياته الكريمة، لأغراض بلاغية، تحاول هذه السطور المتواضعة الإشارة إلى بعضها. و من نِعَمِ اللهِ _ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤهُ _ أنْ أنزل القرآن الكريم باللغة العربية، فشرَّف بذلك اللسانَ العربيَّ... و يأتي التكرار باللغة العربية بالاسم أو الفعل أو بالحرف.... و قد تتكرر _ في الكلام العربي _ الجمل التامة، لتحقق من المعاني ما لا يتحقق بغير التكرار، و من ذلك:1– تكرار الاسم:يقول ربّنا _ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى _ حكاية عن النبي زكريا (عَلَى نَبِيِّنَا وَ آلِهِ وَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ) : {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ? وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ? يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} ، لقد ساعد تكرار لفظة (رب) على إشعارنا بالتبتل و الخشوع في هذا الدعاء الصادق الحزين الذي يقطر حسرة تهتز لها المشاعر و تمتلئ القلوب رهبة... و نكاد نكون على يقين أنَّ هذا التأثير القوي الذي حققه ذلك الدعاء، هو بسبب تكرار لفظة الربّ و لو لم يكرر لكان تأثير الكلام على النفس الإنسانية أفلّ ، و القرآن الكريم ليس كتاب تشريع فقط و إنَّما هو كتاب يهدف إلى مخاطبة عواطف الناس و التأثر في مشاعرهم، و لقد كانتْ آيات الكتاب العزيز تهزّ عرب الجزيرة هزّاً عنيفاً فيدخلون في دين الله أفواجاً... و عندما أراد القرآن الكريم أنْ يقدِّم وصفاً لأهوال يوم القيامة استعمل اسلوب التكرار في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ? وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ، فرسمت الآيتان الكريمتان صورة مرعبة لأهوال ذلك اليوم العظيم، و ساعد التكرار على رسم تلك الصورة، و لولاه لكانتْ الصورة أخفّ تأثيراً في النفوس _ وَ اللهُ أَعْلَمُ _ .2_ تكرار لفظ الفعل:و مما تكرر في لفظ الفعل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ? خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ? اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ? الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ? عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، فقد تكرر في الآيات الكريمات فعل الأمر(اقرأ) ليدل مع الفعل الماضي (عَلَّمَ) على أنَّ ديننا الحنيف هو دين علمٍ و قراءة، و يقترن بذلك بتقرير حقيقة كونية كبيرة و هي أنَّ الله _ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى _ هو (خالق هذا الكون) بما فيه من إنسان و حيوان و جماد، كلُّ ذلك بأسلوب فنيٍّ يمتزج فيه الإيمان بالعلم امتزاجاً يميّز ديننا عن أديان و عقائد تتخذ من الخرافة وسيلة لجلب الأتباع... 3_ تكرار لفظ اسم الفعل:لم يتفق علماء النحو على رأي موحد في أسماء الأفعال، ذلك أنَّها لا تتصرف تصرف الأفعال و لكنها تؤدي إلى معانيها و تقوم مقامها ، و قد وردتْ أسماء الأفعال في كتاب الله العزيز كقولِهِ تعالى - مثلاً - :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ....} ، فاسم الفعل (عليكم) يؤدي معنى الفعل، و يرى المفسرون أنَّ معنى الآية الكريمة : احفظوا أنفسكم من المعاصي ، و ورد اسم الفعل مكرراً في قوله تعالى حكاية عن الذين كفروا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ? هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} ، أي بَعُدَ ما توعدون بِهِ. و قد أفاد تكرار اسم الفعل (هيهات)، أنَّ هؤلاء الذين كفروا لا يُنكرون البعث يوم القيامة فقط، و إنما هم يستبعدون حدوثه... 4 _ تكرار الضمير:و قد يتكرر الضمير في القرآن الكريم كما في قوله تعالى :{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ، فالضمير (هو) أفاد بتكراره توكيد علم الباري _ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى _ بضلال الناس أو هدايتهم، و ربما جاء التوكيد هنا لأنَّ من حُرِمَ الإيمان يظنَّ أنَّ الله _ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى _ لا يعلم النوايا و ما تخفيه الأنفس، فجاء التوكيد ليوثق حقيقة علم الخالق بكلِّ شيء بما فيه ذلك ما يضمره العباد في أنفسهم.5 _ تكرار الحرف: من ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، إن تتابع الحرف و تكراره يدلّ على مدى سعة رحمة ربنا _ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى _ حتى بالنسبة للذين يعملون السوء بجهالة، (و الجهالة غير الجهل، فإنَّ الجهل عذر شرعي في الموضوعات و في بعض الأحكام، فلا يتناسب و التوبة التي وعدها الله لصاحب الجهالة، بينما الجهالة ليست بعذر شرعي، إذ يكفي أنَّ صاحبها يعلم بصورة مجملة حدود الواجب الشرعي الذي عليه و يمكنه أن يفتش عنه حتى يجده) . 6 _ تكرار الجمل التامة:يبدو أنَّ هذا النوع من التكرار كان شائعاً في كلام العرب، و ورد كثيرٌ منه، ذلك أنَّ الجمل المفيدة تكون أرحب مجالاَ للمعنى الكامل الذي يهتم المتكلم بتوكيده أكثر من اهتمامه بتوكيد المعاني التي تدلُّ عليها الكلمات المفردة ، من ذلك قوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، و {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ? إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ، و {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {74/19} ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} ، يقول ابن فارس (ت 395 هـ): (و من سنن العرب التكرار و الإعادة إرادة الإبلاغ بحسب العناية بالأمر...... قال علماؤنا: فعلى هذه السنة جاء في كتاب الله _ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤهُ _ من قوله: فبأي آلاء ربكما تكذبان) ، و يقف السيد المرتضى (ت 436هـ) طويلاً عند هذا الموضوع، و مما قاله في هذا المجال: (.... فأما التكرار في سورة الرحمن فإنما يحسن للتقرير بالنعم المختلفة، فكلما ذكر نعمة أنعم بها قرر عليها، و وبَّخ على التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك الأموال، ألم أحسن إليك بأن خلصتك من المكاره، ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا و كذا؟ فيحسن منه التكرار لاختلاف ما يقرره به و هذا كثير في كلام العرب و أشعارهم.... ) ، ومن كلام العرب ما حفظه التاريخ الأدبي العربي من قول الشاعر المهلهل في رثاء أخيه كليب:عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا طَرَدَ اليَتِيْمَ عَنْ الجَزُوْرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا رَجَفَ العضَاةُ مِنَ الدَبُوْرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا مَا ضِيْمَ جِيْرَانُ المُجِيْـرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ غُدَاةَ بَلَابُــلٍ الأَمْــرِ الكَبِيْـــرِ عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ إذا خيف المخوف من الثغور عَلَى أَنْ لَيْسَ عَدْلَاً مِنْ كُلَيْبٍ إِذَا بَـــــرَزَتْ فَخَبَّـــأَة الخُدُوْرِ و تكرر ليلى الأخيلية شطراً من قصيدتها التي نظمتها في رثاء توبة ابن الحمير الخفاجي، و كذلك تفعل ابنة عمٍ للنعمان بن بشير في قصيدتها التي ترثي بها زوجها، و يكرر الحارث بن عباد قوله: (قربا مربط النعامة مني) في أبيات كثيرة من القصيدة و عليه فإنَّ القرآن الكريم في هذا الجانب ذَهَبَ مذاهب العرب، و هو يهتم بها كلّ من المتكلم و السامع. جعلنا الله ممن يستضيئون بآيات الكتاب الكريم في دنيانا و آخرتنا و آخر دعوانا أنْ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.