من هدى القرآن - سورة التكاثر


بسم الله الرحمن الرحيمأَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ (8)- أين نزلت سورة التكاثر؟ ومتى؟ و ماهو ترتيبها النزولي؟ و ما هو ترتيبها في القرآن الكريم؟• نزلت سورة التكاثر المباركة في مكة المكرمة بعد سورة الكوثر المباركة. ترتيبها النزولي (15)، و ترتيبها في القرآن الكريم (102).* فضل السورة- ما فضل هذه السورة المباركة؟• لهذه السورة المباركة فضلٌ كثير و ثوابٌ عظيم. و قد وردت في شأنها روايات كثيرة، نذكر، في ما يلي، ثلاثاً منها:ففي أصول الكافي باسناده عن أبي عبد الله، عليه السلام، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم:"من قرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عند النوم، وقي فتنة القبر". (1)و عن أبي عبد الله، عليه السلام:"من قرأ سورة التكاثر في فريضة، كتب الله له ثواب و أجر مائة شهيد. ومن قرأها في نافلة، كتب له ثواب خمسين شهيدا، و صلى معه في فريضته أربعون صفا من الملائكة؛ إن شاء الله".(2)* الإطار العام للسورة- ماهو الاطار العام لهذه السورة المباركة؟• بين حاجة الانسان و حرصه مسافة كبيرة، و ما يلهيه عن ذكر الله و عن المكارم ليست حاجته، بل حرصه الذي يبعثه يحرضه على التكاثر في الأموال و الأولاد، حتى إذا زار قبره لم ينفعه ماله و ولده شيئا، و حوسب على نعيم الله، و تلاشى عنه ما يلهيه؛ لأنه سوف يرى الجحيم عين اليقين. و هكذا تعالج هذه السورة المباركة حالة التلهّي بالدنيا عبر التذكرة بالموت ثم الحساب و العقاب.وقد جاء في حديث شريف:"يا ابن آدم ! ان كنت تريد من الدنيا ما يكفيك، فأيسر ما فيها يكفيك. و ان كنت تريد ما لا يكفيك، فكل ما فيها لا يكفيك". (3)و هكذا الذي يسعى نحو إشباع حرصه و طموحه يزور قبره قبل ان يحقق معشار حرصه.* المفاخرة و المباهاة- يقول تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، فما المراد بالتكاثر؟ وكيف يُلهي؟ و عمّ؟• {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}؛ أي: شغلكم الاهتمام بالتكاثر، فأنساكم الآخرة. و قد اختلف المفسرون في الذي ألهاهم؛ هل هو المفاخرة و المباهاة؟ أم التجارة و التشاغل بأمر المعاش حسبما جاء في رواية ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وآله، أنه قرأ: ?أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ? و قال: "التكاثر: الأموال التي جمعها من غير حقها، و منعها من حقها، و شدها في الأوعية". (4) يبدو ان الدافع النفسي الى التكاثر و التنافس في الأموال و الأولاد هو الذي ألهاهم؛ سواء تجسد في السعي نحوهما او في المباهاة بهما؛ لان هذا الدافع موجود بالتالي هنا و هناك.و لذلك؛ لا أجد تناقضاً بين ما يظهر من معنى اللفظ من التشاغل بالتجارة و بشؤون الأولاد، و ما ذكر في قصة نزول السورة من المباهاة و المفاخرة بذلك؛ لانهما يدخلان تحت عموم اللفظ، و ينتهيان الى الدافع ذاته.* زيارة المقابر- في قوله تعالى:{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، هل المراد زيارة الاحياء للقبور، أم الاموات عندما يُنقلون إلى لحودهم؟• يبقى الانسان سادرا في غفلته، لاهيا بالتنافس على حطام الدنيا، حتى يزور المقابر؛ ليرى بيت الوحشة مظلما؛ لم ينوره بمصابيح الصلاح، و لم يمهده بحميد الفعال؛ فلا ينفعه - يومئذ - مال و لابنون، و لا يغنيه مجد و لا فخر.جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق، عليه السلام:"إذا وضع الميت في قبره، مَثُلَ له شخص، فقال له: يا هذا ! كنا ثلاثة: كان رزقك، فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك، فخلفوك و انصرفوا عنك، و كنتُ عملَك، فبقيتُ معك؛ أما إني كنتُ أهونَ الثلاثة عليك". (5)و لعل التعبير بـ"حتى" للدلالة على ان التكاثر الذي يضر بصاحبه هو الذي يتصل بالموت؛ فلو تاب صاحبه من قبل، نفعته توبته، و للدلالة - ايضا - على ان التكاثر يبقى يلهي صاحبه حتى الموت؛ فعلينا ألا نسترسل معه، و لا ينظر بعضنا الى ما أنعم الله على الآخر من أزواج و أموال و أولاد، بل ينظر في أمور الدنيا الى من دونه، وفي شؤون الآخرة الى من هو فوقه، قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}.(6)و قيل: ان معنى زيارة المقابر: التفاخر بالأموات، و لذلك ذكر بعض المفسرين أهمية زيارة القبور وأنها تذكر الانسان بالموت، و تزهده في الدنيا، و ذكروا نصّاً مأثوراً عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، انه قال:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا، و تذكر الآخرة". (7)* من يموت لا يفنى- لماذا قال:{ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}؟• أجابوا: لأن العرب يقولون لمن مات: قد زار قبره. و يبدو ان التعبير بـ"زرتم" يوحي - ايضا - بأن من يموت لا يفنى؛ انما ينتقل من عالم لآخر؛ فهو كالزائر.* العِلم بالعذابَين- في قوله تعالى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}، سكتت الآيتان عن الذي يعلمونه، فما هو؟ وهل الانذار الثاني تكرار للانذار الاول؟ ام ماذا؟ • إن الذي يردع النفس من التلهي بالتكاثر هو خشيته من لقاء ربه عندما يزور قبره، و يواجه عمله.و العلم ينقض الشك، كما ينقض الإنذارُ التلهي، و هذه الآية إنذار من رب العالمين بان هذا التكاثر سوف يُعلِم ان من جمعه لم ينفعه.و لأن نزعة التكاثر عميقة النفاذ في النفس، بالغة الأثر في قرار الانسان، وما أهلك الانسان مثل الفخر، ولا أضله مثل التكاثر؛ لذلك عاد السياق و أكد الإنذار تلو الإنذار وقال: ?ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ?.و على الانسان ان يشتغل بإصلاح نفسه عن لهو التكاثر بذكر الموت هادم اللذات و مفرق الجماعات، حتى لا يفاجئه ملك الموت و هولاهٍ ساهٍ.و قد ذكر البعض: ان هذه الآية مجرد تأكيد للآية السابقة؛ بينما ذهب البعض الى ان هذه الآية تذكرنا بعذاب الآخرة، بينما الأولى تنذر بعذاب الدنيا الذي يجري حين الموت و بعده في القبر على امتداد أيام البرزخ و الى حين يبعثون.* عِلم اليقين - قالت الآية المباركة: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}، فهل عِلم اليقين درجة من حق اليقين؟ • لو علم الانسان ما يصير اليه، لما ألهاه التكاثر؛ لأن المعرفة تورث الخشية، هكذا قال ربنا سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (8)، ولكن حجب الشك و الغفلة و الشهوات تمنع عنه بصائر العلم و اليقين. إذا أسلمت النفس البشرية لهدى الله، آمنت، وإذا طهرت من الشكوك و الظنون، أوتيت اليقين. و لليقين درجات، وما أوتي الانسان أشرف من اليقين، هكذا جاء في الحديث المأثور عن الامام الباقر، عليه السلام، حيث قال: "إنما هو الاسلام، و الايمان فوقه بدرجة، و التقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و لم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين". قال الراوي: قلت: فأي شيء اليقين؟قال:"التوكل على الله، و التسليم لله، و الرضا بقضاء الله، و التفويض الى الله". (9)هكذا جعل الامام، عليه السلام، أسمى درجات الايمان و أشرفها اليقين؛ مما يدل على ان اليقين هو: طهارة القلب من دنس الشرك و الشك و الظنون و سائر وساوس ابليس و همزاته.و اليقين يجعل عمل المؤمن مقبولاً؛ بل و يعظم ثوابه، يقول الامام الصادق، عليه السلام:"ان العمل الدائم القليل مع اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين". (10)أرأيت الذي يصلي و قلبه متصل بنور الله، و نفسه طاهرة من الرياء و العجب و الاستكبار، و يجاهد و نيته لله وحده، كمن يصلي و قلبه مليء بالوسواس، و يزكي رياءً، و يجاهد للاستعلاء في الارض؟!لذلك كان أئمة الهدى، عليهم السلام، يجأرون الى الله في طلب الزيادة من اليقين، و يحثون اتباعهم على مثل ذلك، هكذا جاء في الحديث: كان الامام زين العابدين، عليه السلام، يطيل القعود بعد المغرب يسأل الله اليقين.و روي عن الامام أمير المؤمنين،عليه السلام، أنه قال في خطبة له:"أيها الناس ! سلوا الله اليقين، و ارغبوا اليه في العافية، فإن أجَلَّ النعمة العافية، و خير ما دام في القلب اليقين، و المغبون من غبن دينه، و المغبوط من غبط يقينه". (11)* هذه الدرجات.. أمثلة- في هذا السياق، بيّن البعض ثلاث درجاتٍ لليقين، هي: علم اليقين، و حق اليقين، و عين اليقين، فما هي حقيقة هذه الدرجات؟• نعم؛ لقد بين بعضهم درجات اليقين حسب فهمه بثلاث:ألف/ علم اليقين؛ و ضرب مثلاً له كمن يعلم بوجود النار لما يراه من ضوئها أو دخانها.باء / حق اليقين؛ و مثله كمن يرى النار بعينه مشاهدة.جيم / عين اليقين؛ مثل الذي يلامس النار فيحس حرارتها.و هذا - حسبما يبدو لي - مجرد أمثلة، وإلا فقد يكون يقين من يعلم بوجود النار بسبب علائمها أشد من الذي يلامسها؛ لأن قلبه أوعى لحقيقتها من صاحبه. أرأيت الطبيب قد يكون أفقه بحالة المريض و خصائص دائه من المريض ذاته، و لذلك جاء في الحديث "رب حامل فقه الى من هو أفقه منه". (12)و لا ريب أن هناك في المسلمين الأواخر من كان أشد يقيناً بصدق الرسالة من بعض الذين عاصروا النبي، صلى الله عليه و آله، و صاحبوه، كل ذلك لأن اليقين ليس مجرد علم؛ بل روح في القلب، تجعله يطمئن الى العلم و يسكن اليه، كما الايمان و التقوى، و بتعبير آخر: ان اليقين - كما قلنا في بداية الحديث - نقطة التقاء العلم بالإرادة، كما ان الايمان: التسليم و الاذعان للعلم، و عزم و عقد عزمات القلب على قبول مشاهدات العلم مهما بلغ الثمن، و هذا لا يكون بمجرد ظهور آيات الحقيقة للنفس، بل و ايضا بتصديق النفس لها، و السكون اليها، و لذلك يكون يقين المؤمن بالغيب أشد من علم الكافر بالشهود، و يبلغ اليقين ببعضهم حدا يعايشون الغيب بكل جوارحهم، و يقول أميرهم الامام علي، عليه السلام: "والله لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا". (13) و يقول في صفة المؤمنين: "فهم و الجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، و هم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذبون". (14)* رؤية الجحيممن هم المخاطبون في قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}؛ الكفار ام المؤمنون؟ و هل انهم يرون النار مجرد رؤية؛ كما ظاهر الآية؟• ان الكافر ليرى الجحيم بعينه، يلامسها بجوارحه، فيعلم يقيناً أنه مواقعها، وأنه كان في ضلال عنها مبين، بينما المؤمن يعي وجود النار، و يشاهدها ببصائر قلبه، فيعلم يقينا بها. أوليس الأحجى بنا و الأحرى أن نؤمن بها و نحن بعيدون عنها، و قبل أن نردها ثم لا نصدر منها؟* النعيم المسؤول عنهيؤكد قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} بأن الانسان يُسأل عن النعيم، فما هو النعيم ياترى؟ و اذا سُئلنا عنه، فماذا يجب ان يكون جوابنا؟• لكي لا يلهينا عن الآخرة، التكاثر بحطام الدنيا؛ لابد ان نعرف اننا مسؤولون - يومئذ - عن النعيم، و كلما زادت نِعَم الله علينا، طال وقوفنا للحساب عند ربنا، فهل نملك الجواب الصواب؟ !وقد اختلف المفسرون، بل و اختلفت النصوص، حول المراد بـ"النعيم"، و يبدو أن الكلمة تتسع لكل الأقوال و لو بدرجات مختلفة؛ فقد ينفي نص أن يكون طعام الانسان و شرابه مما يسأل عنه يوم القيامة، فقد جاء في مجادلة الامام الصادق، عليه السلام، مع أبي حنيفة: قال أبو حنيفة:أخبرني - جعلت فداك - عن قول الله عز وجل: ?ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ?.قال: فما هو عندك يا أبا حنيفة؟قال: الأمن في السرب، و صحة البدن، و القوت الحاضر. فقال: يا أبا حنيفة ! لئن وقفك الله أو أوقفك يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها و شربة شربتها ليطولن وقوفك". قال: فما النعيم جعلت فداك؟قال: النعيم:"نحن الذين أنقذ الله الناس بنا من الضلالة، و بصرهم بنا من العمى، و علمهم بنا من الجهل".قال: جعلت فداك؛ فكيف كان القرآن جديداً أبدا؟ قال:"لانه لم يجعل لزمان دون زمان فتخلقه الأيام؛ ولو كان كذلك، لفنى القرآن قبل فناء العالم". (15)------------------1- جامع الاخبار، ج 2، ص 512. 2- ثواب الاعمال، ص 153. 3- تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 660. 4- تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 660. 5- تفسير القرطبي، ج 20، ص 170. 6- جزء من الآية (28) من سورة فاطر المباركة. 7- بحار الانوار، ج 126. 8- بحار الانوار، ج 6، ص 218. 9- بحار الانوار، ج 70، ص 142. 10- بحار الانوار، ج70، ص 176. 11- بحار الانوار، ج70، ص 176. 12- اصول الكافي، جزء 1، ص 403. 13- غرر الحكم و درر الكَلِم، ص 603. 14- نهج البلاغة، الخطبة 193، ص 303. 15- بحار الانوار، جزء 42، ص 276.