المؤسسات الدينية والخطاب القرآني


تعتمد الأمة الإسلامية اليوم في مسيرتها على مؤسستين مستقلتين ـ متباعدتين أحياناً ومتعاونتين أحياناً أخرى ـ وهما (المرجعية الدينية) و(الحركة الإسلامية). وبينما تقود المرجعية بمختلف رموزها شرائح المجتمع عبر المساجد والمراكز الدينية، تقود الحركات الإسلامية شرائح المجتمع عبر الجمعيات والأحزاب ووسائل أخرى.وإذا أردنا دراسة نقاط قوة المجتمع الإسلامي ونقاط ضعفه فلا بد أن تشتمل الدراسة هاتين المؤسستين، وقد برزت هاتان المؤسستان بأشكال وصيغ مختلفة، وقد قدمتا على طول التاريخ خدمات في قيادة الأمة وإصلاحها واختارت في كل مرحلة الطريقة الأفضل للعمل، ولكن مع وجود الجانب الإيجابي في أداء هذه المؤسسات لا بد من إلقاء نظرة تقويمية لمعرفة أدائها خصوصاً في هذه المرحلة، ولو أردنا إلقاء نظرة ناقدة على أوضاع المجتمع الإسلامي، فلابد أن نبدأ بدارسة هاتين المؤسستين اللتين تلعبان الدور الأساس في قيادة المجتمع وتوجيهه فكرياً.إننا لا نريد أن نحمّل المؤسسات الدينية مسؤولية التصدع الذي حدث في الأمة خلال القرون الأخيرة، فإن ذلك أمر قد تمت دراسته عبر عشرات الأبحاث والكتب التي عالجت هذا الأمر إنما نريد معرفة مدى انطباق أهداف ووسائل المؤسسة الدينية والسياسية اليوم مع المنهج والخطاب القرآني، طالما أنه المصدر الأساس للعمل ومن ثم القيام بمراجعة نقدية لرصد (النقاط الغائبة) عن مشروع المؤسسة الدينية.وإذا كان انحراف اليهودية والمسيحية عن منهجية النبي موسى وعيسى (عليهما السلام) قد جاء بسبب الأخطاء التي ارتكبتها المؤسسة الدينية اليهودية والمسيحية والذي أدى إلى تحريف التوراة والإنجيل وابتعاد الأمة عن مصدر الوحي الإلهي الحقيقي، فإن من نعم الله علينا أن بقي القرآن سالماً من عبث العابثين وتحريفهم ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?؟، ولذلك فإن الطريق سالكة لكي نرجع إلى مصادر الوحي لمعرفة الأصول الأساسية لمشروع التغيير والإصلاح في هذا العصر.وعندما نكتشف الوصفة القرآنية لخريطة العمل، عند ذاك يجب أن نعرض منهجية المؤسسة الدينية (المرجعية منها والحركية) في عملها ورسالتها وخططها ومدى انطباق ذلك على (الوصفة القرآنية).المبادئ العامة للرسالة القرآنيةعندما نقوم بمراجعة نقدية لخطاب المؤسسة الدينية في مختلف وسائلها الإعلامية والتبليغية ـ المقروء والمسموع والمرئي ـ نرى سيطرة الخطاب التجزيئي، أو الفردي أو المذهبي أو الإقليمي في معالجة المسائل الدينية والحياتية، إن مراجعة سريعة لعناوين الكتب المطبوعة، أو موضوعات الخطب الدينية، أو المقالات التي تنشر في مختلف الصحف والمجلات الحزبية، تدل بوضوح على مدى بعد هذا الخطاب والأفكار عن منهج القرآن ورسالته التي اتسمت بالكلية والعالمية والهدفية بما تعني هذه الكلمات من عمق وتفسير.إن المنهج القرآني يتّسم بثلاث خصائص تعتبر (مبادئ عامة) للرسالة القرآنية، وهي:1- كلية الخطاب القرآني: فالقرآن لم يكن كتاب عبادة فحسب، أو كتاب قانون فقط إنما تطرّق إلى مختلف عناصر الإيمان والعقيدة والمنهجية الفكرية وطريقة الحياة، وأوضح العلاقة بين الإنسان والطبيعة والله، تطرق إلى الماضي والحاضر والمستقبل، عن الخالق والمخلوق، عن المبدأ والمعاد، عن المادة والروح، عن الحاضر والغائب، شملت توجيهات حياة الإنسان من عبادات ومعاملات وسلوك إنساني وتوَّج ذلك باختيار الإنسان خليفة له بكل معنى الكلمة.?وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً?[1].ووضع له هذا القرآن منهجاً كلياً شاملاً ونوراً هادياً:?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً?[2].?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ?[3].?فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا?[4].والسؤال هل هناك حقاً التزام بكلية الخطاب القرآني في المناهج التعليمية أو الإعلامية أم أن هناك تطرفاً في الحالة التجزيئية والفردية في التوجهات الفكرية والثقافية والتربوية، ولماذا غاب المنهج القرآني من كثير من المناهج الدراسية؟ فهناك اهتمام بمواد دراسية على حساب مادة القرآن.2- عالمية الخطاب: إن عربية القرآن ونزوله في حدود الجزيرة العربية لم يحدد عالمية الخطاب القرآني وحقيقة خطابه الإنساني، لذلك توسعت الرسالة في عهد النبي الأكرم واستمرت فيما بعد، ولم تكن اللغة أو الجغرافيا مانعاً لذلك بسبب ماهية حركة الإسلام وخطابه ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ?[5]، عندما خرج المسلمون لتحرير بلاد فارس من ظلم ملوكهم أفصح قائد المسلمين عن هدفهم ألا وهو «إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة»[6]، ولكن لنتساءل اليوم أين تجسد هذا المبدأ في برنامج وعمل المرجعية والحركات الإسلامية؟ حتى إن هناك ملامح من عبادة العباد في سلوكيات بعض المنتسبين إليها، بل وإن المؤسسة الدينية بدل أن تكون وسيلة للتحرير والإصلاح أصبحت في بعض الأطر وسيلة للضغط والتحديد. أين هي مؤشرات الخطاب العالمي للقرآن في مناهج الدعوة والتبليغ الإسلامي؟ لقد تقلص الخطاب من حالة إنسانية وعالمية إلى حالة فئوية أو جزئية أو مذهبية محدودة جداً، في حين أعلن القرآن بصراحة: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً?[7].لقد استوعب الإسلام في يوم ما كل القوميات والحضارات، وعاش في كنفه كل الأديان حتى عهد قريب، ولكن نحن الآن لا نستطيع أن نتحمل إخوة لنا في الدين لا نختلف معهم إلا في بعض المواقف أو الرؤى. وإذا كان الخطاب القرآني قد استوعب في كنف كل الأديان التوحيدية وذات الكتاب من مسيحيين ويهود ومجوس وصابئة، بناءً على قاعدة: ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ?[8]، فلماذا نحن اليوم لا نستطيع استيعاب إخوة لنا في العقيدة والأديان وحتى المذهب لمجرد اختلاف في الرؤى أو الموقف؟!وإذا كان العالم اليوم ومنشوره عن حقوق الإنسان يقر بالتعددية الفكرية والدينية، فإن القرآن بخطابه العالمي واعترافه بحقوق الآخرين قومياً أو دينياً استوعب نظرياً وعملياً فكرة التعددية، وضرب لذلك أفضل الأمثلة، ولكن أين سلوك مؤسساتنا الدينية وحركاتنا السياسية من التعددية؟! إن حالة التشرذم والتفرقة وعدم التعاون والوحدة والتنسيق فيما بينها يعكس بوضوح غياب الخطاب القرآني وتوجيهاته في هذا الشأن[9].إن عالمية الخطاب القرآني لا يمكن أن يقدَّم بصيغته التاريخية على غرار ما قدمه به المسلمون في صدر الإسلام، إنما يحتاج إلى ملاحظة الظرف التاريخي والتطور الاجتماعي والفكري للبشرية وعرض الإسلام بخصائصه الكلية.وكما نحن المسلمين لا زلنا بحاجة إلى تعاليم القرآن للخروج من مأزق التفرقة والانحلال، فإن البشرية وخصوصاً الغرب بحاجة أكبر إلى تعاليم القرآن للخروج من مأزقه الأخلاقي والفكري، ولكن بشرط أن يُعرض القرآن بخطابه الكلّي وعالميته لا أن يُعرض من أضيق مداخله.عندما يحاول بعض أن يستغل القرآن لأهداف مذهبية أو خلافات طائفية أو أهداف مرحلية محدودة، فيتمسك ببعضها ويخفي أخرى، حيث يتم التعامل مع القرآن بطريقة انتقائية بدل التعامل معه برؤية كلية ووحدوية، أو كما يقول القرآن: ?تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً?[10].?كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ?[11].3- الهدفية في الخطاب القرآني: الإنسان والمخلوقات والأعمال تخضع كلها لقانون الهدفية في القرآن ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ?[12]، ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ?[13].إن القرآن أول من وضع قانون العلية والتفكير المنطقي في الحياة وربط بين عناصر: الإنسان والكون والله في خريطة متكاملة من الهدفية وتناسب العلاقة بينها: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ?[14]، ولكن مع الأسف الشديد غرقت المؤسسات الدينية والحركية في دوامة الأعمال اللاهدفية أو الانغماس في الأهداف الجزئية والمصلحية مما أبعدها كلياً عن منهجية الخطاب القرآني في مسيرة الحياة.ما هو الحل؟إننا ما زلنا نتمنى أن نكون دعاة حضارة ورسالة عالمية، ولكن أعلن القرآن قاعدة صريحة هي: ?إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ?[15]، من هنا لا بد لهذه المؤسسات من الالتزام بما يلي:أولاً: الرجوع إلى منهجية الخطاب القرآني، وذلك عبر تحرير أفكارها ومؤسساتها من الترسبات الفكرية غير القرآنية، والرجوع إلى تحكيم القرآن ومنهجه في الأخلاق والخطاب السياسي.لازالت المؤسسات المرجعية والحركات الإسلامية تعتمد في تنظيماتها وأفكارها على أسس تراثية وتاريخية بعيدة من المنهج القرآني وغير راعية للواقع المعاصر. متجاوزة خصائص الكلية والعالمية والشمولية والهدفية التي أوصى بها القرآن، ملتزمة بالأطر التاريخية والواقع التاريخي الذي صنعه المسلمون ضمن حقبة تاريخية معينة، وحبيسة منهجية فكرية كانت مناسبة لمرحلة زمنية معينة لا يمكن فرضها على واقعنا المعاصر. ثانياً: وضع منهجية جديدة للتعامل مع التراث الفكري والفقهي والتاريخي، وبالرغم من أن التراث الإسلامي بكل تنوعاته مصدر ثري، إلا أن الركون إليه والسكون عنده في إطاره التاريخي وتفسيراته المرحلية لا يبعدنا فقط عن المصدر الأساس للوحي وهو القرآن إنما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، نكررها عدة قرون بلا جدوى. إن مراجعة سريعة للمناهج الدراسية الفقهية مثلاً والتي تحكم المعاهد الدينية، تعكس بوضوح مدى البون الشاسع بين هذه المناهج والمنهج القرآني من جهة، وبين المناهج وحاجة الواقع المعاصر من جهة أخرى. إن مراجعة دقيقة لتاريخ الفقه وآراء الأئمة والفقهاء في فترات زمنية مختلفة، وكذلك لتاريخ تأسيس علم الأصول وتطوره، تكشف لنا عن دور الزمان والمكان في تغير الرأي الفقهي؛ ممّا يدعو المؤسسة الدينية إلى ضرورة التفكير في منهجية الاجتهاد وعلم الأصول وضرورة التحول فيه بما يناسب الواقع. كيف يمكن لنا أن نلتزم بكلية الخطاب القرآني وعالميته ورسالته البشرية إذا كنا أسارى فقه موروث وأصول وضعت لأدوار تاريخية وأطر جغرافية معينة، فهل يمكن لفقه وضع لدورة زمنية محددة أن يستوعب التحول الاقتصاد الحديث؟إن المطلوب من المؤسسة الدينية استخراج الأصول العامة لفقه إسلامي يستوعب التطورات الجديدة من القرآن كما فعل الفقهاء في القرن الثاني والثالث بعد أن طرأ تحول في الأمة الإسلامية عندما تحول المسلمون من مجتمع بدوي إلى مجتمع حضاري، وقد تم ذلك بولادة علم الأصول على يد الإمام الصادق (عليه السلام) في الفقه الإمامي، وعلى يد الشافعي في الفقه السني. وإذا قام الأئمة (عليهم السلام) وعلى رأسهم الإمام الصادق (عليه السلام) بوضع آلية جديدة لتوسع الفقه الإسلامي في القرن الثاني للهجرة، ومن ثم جاء الطوسي والحلي بأدوار تجديدية أخرى وفي القرن العاشر قام الشيخ الوحيد البهبهاني بحركة تصحيحة أخرى وخلفه الشيخ الأنصاري بإحياء المدرسة الأصولية لإنقاذ الفقه الإمامي من الركود، فإن المرجعية الدينية اليوم مدعوة إلى مراجعة أساسية لإحياء وتطوير علم أصول الفقه لكي يستوعب المستجدات الحديثة في عالمنا المعاصر من فقه الاقتصاد إلى فقه البيئة إلى القوانين الدولية. إننا نؤمن بخاتمية النبوة وانقطاع دور إرسال الأنبياء، وهذا يعني أن مسؤولية الرسالة وقعت على عاتق الأمة وعلمائها ومفكريها وحركاتها، وأن أمانة الرسالة الإسلامية والشهادة هي على عاتقنا، وعلينا أن نقوم باستمرار بتجديد الخطاب الإسلامي؛ لكي يستوعب مشاكل العصر ومسائله، ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير?[16]. علينا إيجاد التوازن الدقيق بين الواقع المعاش والمنهج القرآني، فالواقع والحياة يجب أن يدرس من جهة بتفاصيله في الزمان والمكان، والإنسان والتشريعات القائمة بكل تفاصيلهما وتعقيداتهما أما المنهج القرآني فيجب أن يدرسا من جهة أخرى بكليته وعالمية وهدفية لا بخطابه الجزئي، فالقرآن (نص كلي) ولا بد أن تدرس وتفهم الحوادث والآيات ضمن إطارها الكلي ومقاصدها الحقيقية[17].ولو أننا تركنا هذه المسؤولية ويبدو أنه حدث ذلك لنا، فإن القرآن قد أعلن بصراحة ?وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ?[18]، ألم يكن ما حدث في العراق اليوم دلالة واضحة على أن السنن الإلهية قائمة ?وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ?[19]، وهذا الذي حدث، يعكس بوضوح مدى انحراف الأمة عن منهجية القرآن. ثالثاً: ضرورة التحول إلى العمل المؤسسي وإيجاد التحول الإداري في العمل الديني، لقد انتقل العالم إلى آلية العمل المؤسسي، وأصبحت آليات العمل الديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي تدار من قبل المؤسسات المنظمة والمسجلة رسمياً والمنضبطة ضمن نظم داخلية تراعي قوانين البلاد التي تعمل على أرضها، ولا بد للمؤسسة المرجعية وحتى الحركات الخروج من الحالات الفردية إلى آليات المؤسسات. إن الدول الغربية لم تواجه المسلمين اليوم بقدراتها العسكرية فحسب وإنما تلعب المؤسسات الدينية والمدنية التابعة لها دوراً بارزاً في حركة السيطرة على المسلمين، وهذه المؤسسات ليست مؤسسات حكومية بقدر ما هي مؤسسات مدنية، تدير نفسها بنفسها ضمن دورة مالية مستمرة[20]، لها أنظمتها الداخلية وميزانيتها المستقلة، واجتماعاتها وتنسيقاتها التي توحد أعمالها. إن عالم الدين يدخل في المجتمع بوصفه قائداً وإماماً يقود شرائح الأمة في عباداتها ومعاملاتها وعلاقاتها السياسية والاجتماعية، أين مناهج التعليم الإداري وعلم الاجتماع وعلم النفس والقانون الدولي في معاهدنا الدينية؟ إن تدريس الأدب والمنطق والتاريخ والفقه ضرورة من ضرورات فهم العلوم الدينية، ولكن أين آليات فهم المجتمع وإدارته في واقعنا المعاصر، وهل يمكن إدارة المجتمع بآليات عفا عليها الزمن؟. رابعاً: ضرورة التنسيق والعمل الوحدوي بين المؤسسات الدينية، كل التعاليم الدينية والشعائر الإسلامية تدعو بشكل أو بآخر الى منهجية الوحدة والتنسيق والاتفاق على الكليات وتجاوز نقاط الخلاف والتفرقة.?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ?[21].?إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً?[22].?وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا?[23].فمن أصل التوحيد إلى الشعائر العبادية من صلاة وحج كلها قائمة على مبدأ التنسيق والعمل الوحدوي ولكن ما يؤسف له أنَّ ظاهرة التمزق والتفرقة أصبحت سمة من سمات المجتمع الإسلامي فعندما تقام عدة صلوات جماعة في مكان واحد[24] وفي آن واحد، ألا يدل ذلك على أن هذه الصلاة نافية لمقاصدها الشرعية، إذ هي شعار من شعارات الوحدة. فكيف تحولت إلى ظاهرة للفرقة؟!. حتى الأحزاب والحركات الإسلامية التي يفترض فيها تفهم متطلبات الواقع والاتفاق في جبهة عريضة لتوحيد شعاراتها وعملها وأهدافها المرحلية، فتراها أقرب إلى التنسيق مع العلماني منها إلى الإسلامي.إن ظاهرة التفرقة تدعونا إلى مراجعة أساسية لمنهجية التفكير الديني والسياسي والتشكيك بالمنطلقات والمنهجية التي تسير عليها المؤسسات الدينية، إن دعوة الإسلام لم تتلخص في إصلاح الفرد المسلم فحسب ـ إن كنا ملتزمين بذلك ـ وإنما إصلاح الأمة وتوحيد صفوفها من أهم الأهداف الدينية أيضاً. ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ?[25].ما هي مظاهر توحيد الصف والعمل في مختلف قطاعات العمل الديني؟. إن الحوزات والأحزاب والحركات الإسلامية مدعوة إلى إعادة النظر في مناهجها التربوية والتعليمية قبل أن تفكر في استلام زمام السلطة ـ وهي من حقها ـ إلاّ أن استلام السلطة سواء عبر التغيير أو الدخول في اللعبة الديمقراطية سوف لا يحل مشاكلنا الحقيقية، بعشية أو ضحاها، لذلك لا بد من إعداد مسبق، ويكشف ذلك بوضوح عن مدى الفجوة العريضة بين الواقع والحلول. إن التنسيق والعمل الوحدوي بين المؤسسة المرجعية والأحزاب والحركات أمر ضروري لإكمال المشروع الديني والسياسي، فإذا كانت الحركات تتبنى الجانب السياسي فإن المرجعية الدينية تتبنى الجانب التشريعي والفكري بشرط التنسيق والتعاون البناء.خامساً: آلية الاجتهاد الاجتماعي: ومن هذا المنطلق أيضاً لابد من توجيه المرجعية الدينية إلى آلية الاجتهاد الجماعي. إن التعاون المشترك بين الاختصاصات المختلفة لعلماء الاجتماع والآداب والدين يؤدي إلى تعميق عملية الاجتهاد، إن الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي لا يعني إلغاء عملية الاجتهاد الفردية والاستنباطات الفقهية للفقهاء، إنما يعني توسيع الجهود الفردية وتكثيفها لصبّها في بوتقة واحدة، إن الجامعات الغربية والمؤسسات الحقوقية العالمية إنما استطاعت الهيمنة على العالم بمجهودها الجماعي، ولا يمكننا لنا اليوم تحدي الواقع المعاصر إلا بتكاتف الفقهاء من أجل إيجاد مرجعية اجتهادية جماعية وإخراج الأمة من حالة الفوضى الفقهية وعدم التنسيق بين المؤسسات المرجعية الدينية، ألم تكن المؤسسات الدينية والسياسية مقصودة بالآيات الكريمة:?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً?[26]، ثم يأتي الأمر الصريح: ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ?[27].لقد آن الأوان لاكتشاف الصيغ المناسبة لصب الجهود الأحادية مرجعية كانت أم حركية أم سياسية أم دعوية في بوتقة العمل الجماعي، كما دعانا القرآن ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[28].--------------------------------------------------------------------------------* ورقة مقدمة لمؤتمر: العودة إلى القرآن في دورته الثامنة، تحت شعار: الأمة وشروط التمكين، المعوقات وآفاق المستقبل، الذي تحييه حوزة الإمام القائم، والمنعقد في 5 - 6 شعبان عام 1425هـ.[1] سورة البقرة، الآية 30. [2] سورة النساء، الآية 174.[3] سورة إبراهيم، الآية 1.[4] سورة التغابن، الآية 8.[5] سورة آل عمران، الآية 110.[6] تاريخ الطبري: ج3 أحداث سنة 14هـ.[7] سورة سبأ، الآية 28.[8] سورة البقرة، الآية 256.[9] إن تجربة العمل السياسي في العراق اليوم تعكس بضوح مدى الشرخ القائم في المؤسسة الدينية بشقيها المرجعي والسياسي، وبعدها عن المنهج القرآني.[10] سورة الأنعام، الآية 91.[11] سورة الحجر، الآية 90ـ91. [12] سورة المؤمنون، الآية 115.[13] سورة العنكبوت، الآية 2.[14] سورة الدخان، الآية 38. [15] سورة الرعد، الآية 11. [16] سورة فاطر، الآية 32. [17] إن الفهم التجزيئي للقرآن قد يؤدي إلى إبطال الأصول الأساسية للقرآن وهذا غير جائز، إن وجود آيات النسخ في القرآن تدل على هيمنة الخطاب الكلي على التجزيئي. [18] سورة محمد، آية 38.[19] سورة آل عمران، آية 140.[20] هناك أكثر من 120 ألف مؤسسة خيرية وغير حكومية في أمريكا تزيد ميزانيتها السنوية على 60 مليار دولار، بما فيها المؤسسات ذات الطابع الديني، واستطاعت إسرائيل السيطرة على السياسة والإعلام الإمريكيين عبر آلية المؤسسات المدنية وسط الشعب الأمريكي. [21] سورة المؤمنون، الآية 52. [22] سورة الصف، الآية 4.[23] سورة يونس، الآية 19.[24] لقد شاهدت أخيراً ثماني صلوات جماعة تقام في وقت واحد في أحد المراقد المقدسة بالعراق.[25] سورة النحل، الآية 92.[26] سورة آل عمران، الآية 103.[27] سورة آل عمران، الآية 105.[28] سورة البقرة، الآية 208.