إدارة الخلافات في المجتمعات الإيمانية.. رؤية قرآنية


عندما نلاحظ المجتمعات الإسلامية في كل مكان، نكاد لا نستثني مجتمعاً واحداً من مشكلة النزاعات الإجتماعية والخلافات التي تنهك قوى المجتمع وتعيقه عن بلوغ تطلعاته، وهذه المشكلة من المشكلات الأساسية لأنها مقدّمة لمشكلات عديدة، فهي مشكلة منتجة لعدّة أزمات، لذلك فإن إيلاءها الأهمية من البحث في كيفية التعامل معها، وسبل احتوائها يعتبر احتواءً لمشكلات عديدة، بل هو بمثابة تعبيد الطريق لبدء مسيرة المجتمع مع ما يحمل من تطلعات ومشاريع، فإن أصاب الطريق اعوجاج فإنه سيؤدّي إلى هدف مغاير، ونحاول في هذا المبحث أن نقرأ جانباً من المعالجة القرآنية لهذه الظاهرة من خلال قسم متسلسل من الآيات في سورة الحجرات، من الآية التاسعة وحتى الثالثة عشر، وهي تعتبر حكاية وعلاجاً لهذه المشكلة الاجتماعية بصورة كلية، لذلك فإننا نكتفي بسياقها وبمدلولاتها من دون اللجوء إلى التفريع الكثير.بين يدي الآيات:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1].تكوين المجتمع الإيماني:لقد عبّر القرآن الكريم عن المجتمع المسلم بالأمة الواحدة ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ?[2]، حيث إن عبادة الله تعالى هي أساس الوحدة وهي التي تكللها وترسم معالمها، فمنها المنطلق وإليها المآل، وهي الغاية من الخلق كما قال عز جل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[3]، فهذه هي روح الأمة الواحدة التي يصوّرها القرآن الكريم ويدعو كافة المؤمنين إلى الانضمام تحت لوائها وعدم التخلّف عنها بالتفرّق عن الروح الإيمانية العامّة التي تكوّن المجتمع الإيماني من خلال عبوديته لله الواحد القهار، فالوحدة الإيمانية هي فيما يرتبط بأصل مبدأ الخلق والمنتهى إلى الله، وبتعبير آخر هي الحركة التي تتولد في المجتمع بمنطلقات واحدة وغايات واحدة هي العبودية لله وصولاً لرضاه تعالى. أمّا فيما بينهما من الأساليب، والتوجهات والتخصصات فإن المجتمع الإيماني سيكون متعدداً، إمّا من حيث الرؤية لموضوع واحد، فتختلف الفئات والجماعات فيما بينها في الرؤى حول موضوع واحد لتعدد أفهامهم، وإما في التعدد بمعنى التقسيم الذي ينظر للتخصّصات المختلفة لتباين الزوايا التي ينظرون إليها، أو ذلك التقسيم الذي ينظر إلى العلاقات الاجتماعية ككيانات وتجمعات، كالعوائل والقبائل كتعدد طبيعي، أواختلاف مناطق السكنى والأوطان. كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[4]. تعبيراً عن التعدد في التخصصات والإهتمامات. وكما هي حالة: (المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان) التشيكلات المكوّنة في بداية بزوغ شمس الإسلام تعبيراً عن طبيعة المهام والأوطان والأزمان التي تملي تكوينات ومجاميع لكل منها مواصفات مشتركة تجمعها وتحدد كيانها وهي تنصهر كلها في عملية العبودية لله وتوحيده عز وجل، والآية الكريمة التالية تعبّر عن هذه الحالة بكل وضوح، قال عز من قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[5].وكل تلك التصنيفات الأخوية داخل المجتمع الإيماني الواحد قال عنها الله عز وجل: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[6].أصل الخلافات:ولأن المجتمع مكوَّن من عدة تكوينات مختلفة، فإن من الطبيعي أن ترد مسألة الخلافات فيما بينها، والقرآن الكريم لا ينطلق بالضرورة من واقع كان موجوداً بالفعل، وإنما قد يعالج مشكلات قد تكون مستقبلية للحفاظ على كيان المجتمع الإيماني كرصيد معرفي ومرجعي لعلاج التصدعات والإبتلاءات، و قيل: «إنها ـ الآيات من سورة الحجرات ـ نزلت في قتال حدث بين الأوس والخزرج.. بالسعف والنعال»[7].وقد عبّر القرآن الكريم عن حالة الخلاف والنزاع في مطلع الآيات موضع البحث بالاقتتال في قوله: ?وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..? إذ ليس المقصود بالضرورة هو الاقتتال بإرادة القتل بالأسلحة الحربية، وإن كان أحد مصاديقها هو ذلك، لما ورد من أن تأويل الآية بعد الرسول هو في من سيقاتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيشذّ عن الحق كما في الكافي «إنما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة وهم أهل هذه الآية وهم الذين بغوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله ألاَّ يرفع السيف عنهم حتى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم لأنهم بايعوا طائعين غير كارهين..»[8]. فهذا وجه من وجوه الآية الكريمة وأحد مصاديقها وتأويلاتها، ومن مصاديقها وتأويلاتها التي هي محط بحثنا هو الخلاف والنزاع والصراع بين الفئات والتجمعات والطوائف، وقد استخدم القرآن الكريم لفظة الاقتتال في وصف الخلاف في الرأي عندما يفترق الناس إيماناً أو كفراً حول مبدأ ما، في قوله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[9].بصائر من الآية:1- إن الطائفتين المقتتلتين هما ضمن الدائرة الإيمانية، وقد ناداهما الله عز وجل بـ(من المؤمنين) أي أنهما ضمن التكوين الاجتماعي للمجتمع الإيماني، وهذه حقيقة ينبغي أن نؤكّد عليها، فلا يعني الإختلاف أو الخلاف بين الفئات المتعددة بالضرورة خروجاً عن الدائرة الإيمانية، فقد يحدث ذلك مع الاحتفاظ بالسمة العامّة للإيمان بالله، وفي الوقت ذاته قد يعبّر بعض الخلاف عن شرخ في الإيمان، إلا أن ذلك يعود إلى مدى إصابة الثوابت العامّة للإيمان بذلك الخلاف، أمّا مجرد الخلافات الاجتماعية والثقافية ضمن الدائرة الإيمانية فلا يستدعي خروجاً عنها.2- والاقتتال، ليس بالضرورة هو محاولة القتل كما أسلفنا، بل هو عموم الصراع، والصراع على أي حال يسعى لقتل الطرف الآخر معنوياً وهو ما يسمّى بقتل الشخصية، بل إن قتل شخصية الإنسان أعظم من قتل شخصه، على مستوى الأثر الإجتماعي، فقد يُقتل شخص وينتهي الأمر، ولكن قد تقتل شخصية أحدهم عن طريق تجريده من الإيمان بصورة من الصور، فيترتّب على ذلك أثر نفسي واجتماعي أوسع من دائرة الفرد، وهو ما يؤدّي إلى حالة الفتنة بين الناس، ولذلك قال عز وجل في كتابه الكريم: ?وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ?[10] عمقاً وطولاً. و {الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[11]، أثراً وسعة.3- والصراع، إنما يشترك فيه الجميع إلا أن الحلول غالباً تتم بين أعيان الطوائف والجماعات، فإننا نرى أن الله تعالى عبّر بالتثنية بأنهما طائفتان، ثم جمع اللفظ في اقتتلوا، ثم ذكر التثنية في الضمير(بينهما) في مسألة الصلح، فالاقتتال والصراع يشترك فيه الجميع، ويمس مصالح الجميع، إلا أن العلاج يكون بين الرؤس والأعيان في كلتا الجماعتين، وهو ما يسهل عملية التفاهم والتعامل لمواجهة الخلافات الاجتماعية. ممارسة الإصلاح: الخلافات إنما تحتاج إلى الإصلاح، لكي يعود المجتمع إلى طبيعته الوحدوية وتسود أجواءه روح الإخاء والتعاون، التي أسسها الرسول الأعظم بين المؤمنين على الأسس القرآنية التي تقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[12]. 4- ولأن الصراعات والخلافات يشترك فيها الجميع فإنها تؤثّر بشكل سلبي على وجودهم جميعاً، وينعدم تأثيرهم الإيجابي على على الواقع، كما قال ربنا عز وجل: ?وَأَطِيعُواْ اللّه وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ?[13]، فإن الإصلاح هنا سيكون هو الحل والبديل الأمثل، وهذه مسؤولية إلهية تهم الجميع وتقع على عاتقهم للسعي للإصلاح. 5- ولكن كيف نتصرّف، في مسيرة الإصلاح بين الفئات الاجتماعية المختلفة، وكيف ندير عملية الإصلاح بين المتنازعين ؟ نستلهم من الآية عدة مراحل لممارسة الإصلاح.أ- تحمل المسؤولية: فعل الأمر من قوله: ?فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا? يعبّر عن الإرادة التي يتحرك من خلالها المصلحون، وهو فعل التسوية والتفاهم بين الأطراف المختلفة. ب- إعانة الطرف الإيجابي في مقابل السلبي: فإن أبت إحداهما، فإن الواجب على المصلح أن يقف مع مريد الإصلاح، حتى ترجع الفئة التي تأبى ذلك، كما في الآية ?فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ?. إلى أن ينتهي الأمر برجوعها عن صدودها وبغيها. ج- أثناء الإصلاح: وعملية الإصلاح لا ينبغي أن تتأثر بشوائب نفسية من قبل المصلح، ولا ينبغي أن يؤثر بغي هذه الطائفة على المسيرة العادلة للإصلاح، كما في الآية: ?فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ?، فالعدل قيمة أساسية حتى مع من يبغون وينحرفون، وحتى مع أولئك الذي لا نملك لهم وداً، يقول تعالى في آية أخر: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ?[14]. فلا يمكن التخلّي عن العدالة تحت أي مسمّى وتحت أي ضغط، سواء منبعه طرف من أطراف النزاع أو منبعه الممارس لعملية الإصلاح. د- بعد الإنتهاء من العملية الإصلاحية: ?وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين?، وهذا تأكيد على مسألة العدل، لضمان استمرار العملية الإصلاحية في طريقها السليم، فالعدل قيمة في عملية الإصلاح ذاتها، وقيمة أساسية تشكّل السلوك الذي يأتي بعد إنجاز العملية، فيستمر التعاطي العادل مع كافة الأطراف، فلا يمكن أن تسلب حقوق طائفة لأنها أخطأت في يوم ما.التأسيس الفكري للإصلاح: المطالبة بالإصلاح، تحتاج إلى تأسيس فكري، لكي يقتنع الإنسان بهذا العمل، ويكون ضمن عقيدته، لذلك نجد أن الآية التي تلي الحديث عن المشكلة تؤسس لعملية الإصلاح وتقول ?اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?. وهذه حقيقة واقعية، قد يغفل عنها الكثير من المنظرين والعاملين في الحقول الاجتماعية، فيسعون جاهدين لمعالجة قضايا مختلفة من دون أن يزوّدوا المجتمع بثقافة تلك القضية، وهذا المنهج لا يعالج الأسس والجذور، وإنما يكتفي بالعلاج السطحي، فعندما لا يمتلك الناس الأسس الفكرية والثقافة التي تدفعهم للتحرك ضمن دائرة علاجية وإصلاحية ما، فإنه لن تتكوّن لديهم الدافعية الكافية لممارسة ذلك، ولا يؤمّن ذلك المنهج ضمانة لعدم عودة المشكلة مرة أخرى، فإعطاء الخلفية الفكرية الثقافية لهذه المشكلة إنما هو لتأسيس قناعة في عقول الجميع بأن الأصل هو الأخوة، والأخوة جاءت من البعد الإيماني، والالتزام بمسؤولية الحفاظ على هذه الحالة هي مدعاة إلى أن يكون الإنسان في رحمة الله تعالى. والبصائر التي نستلهمها من الآية هي: أن الإصلاح ضرورة يتطلبها الواقع، فالمؤمنون هم إخوة، والإخوة يعيشون في البيت الواحد، ولابد ألاَّ يعيشوا الخلافات فيما بينهم، وإلا تحوّل ذلك البيت إلى جحيم لافتقاده الأمن الأسري والاجتماعي، فمن الضروري أن يلجأ الإخوة إلى الصلح، لكي يبقى البيت هادئاً ومناسباً لكل الأطراف، وهكذا هو المجتمع الإيماني، فإن الفئات المختلفة تعيش ضمن دائرة الإيمان أخوة في الله، فالخلافات ستعكّر الأجواء، وتؤثّر على الطرفين. وهكذا هي الأحاديث الشريفة تصف المجتمع الإسلامي بأنه كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى. فإن الله تعالى هو الذي حدّد نوعية العلاقة بين طوائف المجتمع المتنوّعة، ولذلك فإن ممارسة الإصلاح، ونبذ الخلافات، هي من صميم التقوى، وإن بركات الله عز وجل ورحمته تنهمر على المجتمع الذي يراعي أوامر الله وحدوده، ومادامت الخلافات تنهك وتنخر في جسد المجتمع، فإنه سيكون أبعد عن الرحمة، كما هي الحقيقة في ذيل الآية ?وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?.أخلاقيات التعامل في المجتمع الإيماني:لقد جاءت الآيات بالنهي عن أفعال مذمومة وسلوكات سلبية، ولم تأت بالأخلاقيات المقابلة لها في جهة الإيجاب، وذلك لأن هذه السلوكات هي الأسباب التي تؤدّي إلى الخلاف والصراع في المجتمع الإيماني الذي تحدّثت عنه الآيات في مطلعها، وإن رفضها وتجنب المجتمع ممارستها، يعني أنه قام بالعمل الوقائي.وهنا سببان أساسيان في منشأ الصراع، هما:الأول: طبيعة نظرة الإنسان لنفسه.الثاني: طبيعة نظرة الإنسان للآخر.الأول:عندما تكون نظرة الإنسان لنفسه قائمة على أساس التفضيل بأن يعتبر ذاته أفضل الجميع وأرقاها، فهذا يدعوه إلى عدّة أفعال وسلوكات تجاه المجتمع وهي:1- السخرية: بأن يرى الإنسان نفسه أفضل من الآخرين فيستصغرهم، ويستهزئ بهم ويضحك منهم فيقوم بتحقيرهم. بينما يمكن أن يكونوا هم أفضل منه لأنه لا يعرف كافة الجوانب والأحوال الإنسانية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ}. وهذا السلوك لا يولّد إلا العداء من الأطراف التي تقع عليها السخرية، كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يطمعنّ المستهزئ بالناس في صدق المودة»[15].2- اللمز والتعيير بالحركة أوالقول: هي من افرازات استحقار الآخرين،( وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و جاء التعبير بأنفسكم لأنه تعبير عن أن الذي يقوم بهذا الفعل إنما ينعكس عليه، لأنه فعل مشين ومنقصة أخلاقية تعود على الإنسان نفسه، أو هو فعل يؤذي المجتمع ككل وهو داخل في ظمنه لأن أفراد المجتمع هم إخوة في الإيمان، فما يبدر منه من سلبيات سوف تقع عليه نتائجه، وهذا السلوك ناشئ من طبيعة النظرة الإستعلائية التي يراها الإنسان إلى نفسه في قبال الآخرين. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.3- وهذه الحالة من التنابز بألقاب السوء: إنما هي رجوع إلى الوراء بعد الإيمان حيث أن سمة الإنسان المؤمن هي الأسماء الخيرة والصالحة وإن استبدالها بالأدنى هو عبارة عن تخلٍّ عن الحالة الإيمانية، ولأن هذه الأفعال هي أفعال سلبية فإن الإنسان المؤمن بحاجة إلى التوبة لكي ينال استحقاق الرحمة الالهية وإلا فإنه سوف سيكون في دائرة الظالمين، لأنه تعدّى على حقوق الآخرين، والتي هي حقوق اجتماعية عامّة.وبلا أدنى شك فإن الإنسان عندما يتعرّض لمثل هذا السلوك سوف يستثيره ذلك ليقوم بأعمال قد تؤدّي إلى حالة النزاع والصراع.الثاني: السبب الآخر لمنشأ الصراع هو طبيعة نظرة الإنسان للآخر، وهي القائمة على سوء الظن، وهو ما عبرت عنه الآية التالية في السياق القرآني: 1- اجتناب سوء الظن بالآخرين، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ?.2- عدم اجتراح خصوصيات الناس وتتبعها بالتجسس، ?وَلَا تَجَسَّسُوا?.3- النهي عن إشاعة عثرات الناس بفعل الغيبة وهي أن يتحدّث أحدهم عن الآخر في غيابة بما يكره، ?وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ?.والملاحظ في طبعية هذه النظرة التي يتباها الإنسان لتحديد رؤيته عن الآخرين، بأنها نابعة من روح مشكّكة وعديمة الثقة تميل إلى الظن السيئ بالآخر، فهي تفترض أن يقوم الناس بالسوء دائماً، ولا تأمل ولا تتفاءل بالخير تجاههم، وهذا هو سوء الظن، وهو المنشأ الأساس في بداية سلسلة الأفعال الأخرى التي جاءت في سياقها وفي آية وحدة، وقد نهت الآية عن هذا الفعل، كما نهت الروايات الكثيرة عنه، وقد قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك: «إذا ظننتم فلا تحقّقوا..»[16] إشارة إلى أن لا يتحوّل سوء الظن القلبي إلى فعل وحركة في الخارج، وقال الإمام علي (عليه السلام): «من غلب عليه سوء الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً»[17] فالبداية هي سوء الظن ثم يمر بالتجسس، وينتهي إلى الغيبة، لأن سوء الظن يدعوا الإنسان إلى أن يصدّق ظنّه، فهو بحاجة إلى تتبع الأثر والتلصص على الآخرين، وهذا الفعل يسوقه إلى النهاية المدمّرة وهي الغيبة. ثم يحيلنا السياق القرآني إلى الأساس الفكري في تأسيس عملية الإصلاح التي ذكرناه سابقاً (الأخوّة الإيمانية) حيث يذكر السياق القرآني أن الغيبة هي بمثابة نهش ذلك المبدأ، وكأن الإنسان الذي يمارسها يأكل لحم أخيه المؤمن وهو حي، له حق الحياة بما تحمل هذه الكلمة من معنى، وما دام الإنسان مقتنعاً بأصل المبدأ بأن المؤمنين إخوة، فهو بلا شك يكره أن يقوم بأكل لحم أخيه، وإلا فَيُعَدَّ ذلك تناقضاً واضحاً بين ما يؤمن به وبين ما يمارسه في واقعه، وقد أحالت الآية الناس الذي يمارسون سلسلة افعال تؤدّي إلى الغيبة ثم تؤدّي إلى نشوب الخلافات الاجتماعية إلى مبدأ كراهة أكل المؤمن لحم أخيه المؤمن تعويلاً على كفاية الأساس الفكري والإقتناع به مسبقاً فيقول تعالى: ?أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ? والكراهة هنا نابعة من استيعاب الفكرة الأساس وهي مبدأ الأخوة الإيمانية، إذ لا فائدة من التذكير بها أو التعويل على كراهة أكل لحم الأخ من دون الالتفات إلى أن هذا الأصل مستوعب مسبقاً، وهذا تحديداً ما ندّعيه في ضرورة التأسيس الفكري لإعطاء الحلول والعلاجات مفعولها وتأثيرها في المجتمع.التخلّص من الخلافات من شروط الانفتاح:بعد العرض القرآني الدقيق لمسألة الخلافات في المجتمعات الإيمانية، تبياناً لأهميتها تأتي الآيات في السياق نفسه لتقول: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ?، فهي تدعو الناس جميعاً إلى التعارف فيما بينهم، رغم اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وهي دعوى للانفتاح على كافة أصناف البشر بغض النظر عن نوعهم، ولكن لكي يكون ذلك الانفتاح انفتاحاً واعياً وعاملاً من عوامل الرقي الإنساني عبر التكامل الحضاري، فلابد من الالتزام بمقدماته، وأهم مقدمة تأتي في السياق الاجتماعي هي أن يحافظ المجتمع على تماسكه ووحدته، ويتغلّب على خلافاته ونزاعاته مستعيناً بمنهج الإصلاح الاجتماعي الذي يكوّن الأخوّة الإيمانية التي تحافظ على التعدد والتنوّع داخل إطار الوحدة الإيمانية، وإن أي انفتاح لا ينظر لهذه المقدّمة الأساسية سيكون انفتاحاً منقوصاً وسيؤول إلى الفشل كما هي القاعدة القرآنية العامة ?وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ?[18].الخلاصة:إن وجود التعدد في المجتمع الإيماني شيء طبيعي، إلا أن المرفوض هو ظاهرة الخلافات بين الفئات والجماعات، وإن التخلّص منها مسؤولية الجميع، ومنهج الاصلاح هو المنهج القرآني الذي يسير في اتجاه العدالة المجتمعية، حيث يطعي كل ذي حق حقه، ولكي يكون الإصلاح فاعلاً، عليه أن ينحو منحى التأسيس الفكري أولاً عبر خلق قناعة واحدة حول الأخوة الإيمانية، ثم يؤسس عليها بقية الخطوات الإصلاحية، والتي تتجه في طريقين: الأول: معالجة نظرة الإنسان لذاته لتكون نظرة طبيعية غير استعلائية، والثاني: معالجة نظرة الإنسان للآخر وإشاعة روح الثقة وحفظ الحقوق، والوصول إلى هذا القدر في المستوى الاجتماعي يؤهّل المجتمع للانفتاح أكثر على الأصناف الأخرى من البشر المتنوّعة في ثقافاتها وعقائدها.--------------------------------------------------------------------------------[1] سورة الحجرات، آية/ 9 ــ 13.[2] سورة الأنبياء، آية/ 92.[3] سورة الذاريات، آية/ 56.[4] سورة التوبة، آية/ 122.[5] سورة الحشر، آية/ 8 ــ 10.[6] سورة التوبة، آية/ 100. [7] الكاشاني، الفيض، تفسير الصافي، ج5، ص50 [8] الصافي، ج5، ص51.[9] سورة البقرة، آية/ 253.[10] سورة البقرة، آية/ 191.[11] سورة البقرة، آية/ 217.[12] سورة الحجرات، آية/ 10.[13] سورة الأنفال، آية/ 46.[14] سورة المائدة، آية/ 8.[15] الري شهري، محمدي، ميزان الحكمة، ج4، ص415.[16] ميزان الحكمة ج5 ، ص626[17] نفس المصدر ، ص 628[18] الأنفال: 46.