الاستملاك الرمزي للهلال



د. عبد الجبار الرفاعي



من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة. هناك علاقة جدلية بين امتلاك أنظمة إنتاج المعنى وامتلاك السلطة، فكل سلطة تنتج معرفة من جنسها، سواء كانت سياسية، أو عسكرية، أو روحية. المعرفة كما يقول فوكو تنتج سلطة، والسلطة تنتج معرفة، تعززها وترسخها وتغذيها على الدوام.كل سلطة تحرص على امتلاك كافة منابع المعرفة. وكما تعمل السلطة على انتاج المعرفة، المعرفة بطبيعتها تحدد نوع السلطة.
وبتعبير آخر، التأثير متبادل بين السلطة ونظام إنتاج المعنى،كل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به. فكل من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة. وكل من يمتلك السلطة يمتلك أنظمة إنتاج المعنى، أو يحتكر أنظمة إنتاج المعنى. من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى الروحي يمتلك تبعاً لذلك السلطة الروحية، ومن يمتلك السلطة الروحية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى الروحي. وهكذا من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى السياسي يمتلك تبعاً لذلك السلطة السياسية. ومن يمتلك السلطة السياسية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى السياسي، بل يسعى للهيمنة على غيرها، وتوظيفها كلها من أجل ترسيخ سلطته.
من طبائع السلطة السياسية، بل كل سلطة، انها تتمدد وتتسع باستمرار، تتغلغل وتخترق كل شيء تتمكن من إختراقه والاستيلاء عليه. لذلك تحاول إلتهام المال والحريات والحقوق، بل كل ما تستطيع أن تطاله وتصل اليه، أياً كان. مما يكرس سطوتها على حياة الناس. فما لم تضع السلطة لنفسها دائرة نفوذ مرسومة بوضوح، وتضبط ذلك بقوانين صارمة، فلن يحد من تغولها أي شيء سواها.  
تلك هي آلية اشتغال السلطة، حيثما كانت، كيفما كانت، أينما كانت. طبيعة السلطة نسيج متشعب عميق مركب معقد، متغلغل في كل ما هو: كبير وصغير، جزئي وكلي. إنها تتشكل عادة مما هو: ظاهر ومستتر، مباشر وغير مباشر، معلن ومضمر، جلي وخفي، حاضر وغائب، معلوم ومجهول.
لا أريد أن أتحدث أكثر عن شباك وشراك أنماط السلطة التي حفر في أعماقها، وكشف وجوهها المتنوعة، وفضح أقنعتها المختلفة، فلاسفةٌ غربيون أمثال فوكو ومن قبله نيتشه، وإنما فقط وددت الإشارة بإيجاز إلى شيء من طبائع مختلف أشكال السلطة ومدياتها وآليات اشتغالها، بغية الكشف عن الرأسمال الذي تتداوله، ونوع الأسهم التي تستثمرها، وكيفية تنميتها وتوالدها، وتشعب نسيجها.
الذين يصرون على التوكؤ على آراء الفلكيين، والاستناد إليهم كمرجعية وحيدة نهائية في كل ما يتصل بالهلال، ومواعيد الأعياد، وشهر رمضان، إنما يحاولون الإستِئثار بأحد ممتلكات المؤسسة الدينية، ذات التأثير الهام في إنتاج المعنى الروحي، وتغذية البنية التحتية للسلطة الروحية. إنهم يعملون على إخراج الهلال المؤطر بمضمون قدسي، وانتزاعه من حقله الخاص، وتفريغه من محتواه. حين يجردونه من مضمونه القدسي، ويرحلونه إلى السياق الفلكي، يغدو هلالاً مختلفاً، لا علاقة له بمجال انتاج المعنى الديني. بمعنى آخر انهم يتعاطون معه بوصفه الهلال الكوني، الذي يقع في حيز الخبير الفلكي، والملحق بالشأن الدنيوي، أي ينقلونه من مجاله الخاص ووظيفته في انتاج معنى ديني إلى مجال لا يمت بصلة للشأن الديني.  
وطبقاً لما تقوله أصول الفقه، فإن فعلية الحكم الشرعي تدور مدار توفر تمام عناصر موضوعه، وهذه العناصر هي: عبارة عن كافة المواصفات والقيود والشروط المأخوذة في موضوع الحكم، والتي بمجموعها تمثل الموضوع. وذلك ما تقرره القاعدة المعروفة في الأصول: "المشروط عدم عند عدم شرطه، أو المقيد عدم عند عدم قيده". وما يقع موضوعاً للحكم الشرعي هنا بغرة شهر رمضان، وتصرمه وبدء العيد في اليوم الأول من شهر شوال، وهكذا أهلة الحج والأشهر القمرية، إنما هو الهلال الديني الرمزي، أي الهلال الذي تؤطره المواصفات والشروط والقيود المنصوص عليها في المدونة الفقهية. وليس الهلال الكوني الفلكي، العاري من تلك المواصفات والشروط والقيود، ذلك أن الهلال الفلكي ليس هو موضوع الحكم الذي يتمسك به مشهور الفقهاء، ممن لا يقبلون توظيف الحسابات الفلكية والتكنولوجيا الجديدة في تحديد ولادة الهلال. وهو ما يدعوهم للتشبث بالرؤية البصرية المباشرة، وقول بعضهم بتعدد الأعياد، تبعاً لتعدد الآفاق جغرافياً، حتى وإن لم يتطابق ذلك مع ما يكتشفه علماء الفلك، وحساباتهم العلمية، وأدواتهم الرصدية.
حاولنا أن ندرس الخلاف على الهلال في ضوء "فلسفة الفقه". وفلسفة الفقه علم يُنقّب عمّا هو غاطس في عملية الاستدلال الفقهي، ويعمل على عبور عناصر هذا الاستدلال المعروفة، ليصل إلى تشريح الخلفيات غير المرئية في استنباط الأحكام الشرعية، ويسعى للتعرف على مختلف العناصر الخفية المؤثرة في إنتاج الفتوى.