لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَالسِّرُّ الإلهِيُّ الْمَكْنونُ



زين العابدين عباس ناصر


تُعتَبَرُ لَيلَةُ الْقَدْرِ مِنَ اللَّيالِي المُبارَكةِ لِجَميعِ المُسلِمينَ لِأنَّ هذِهِ الليلةَ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ" (القدر:3)، وهذه الليلةُ أيضاً مشهورةٌ بليلةِ نُزولِ القرآنِ الكريمِ إلى السَّماءِ الدُّنيا. وَإنَّ لِهذا المَفهومِ (لَيْلَةِ الْقَدْرِ) تفسيراً لُغَويّاً أيْ أنَّ اللَّيلةَ هي واحِدَةُ اللَّيلِ جمعُها ليالٍ وليائِل، الليلُ: ما يَعقُبُ النَّهارَ مِنَ الظَّلامِ وَهُوَ مِنْ غُروبِ الشَّمسِ إلى طُلوعِها والليلُ اسْمٌ لِكُلِّ لَيْلَةٍ وهُوَ عقيبُ النَّهارِ، وَمَبْدَؤُهُ مِنْ غُروبِ الشَّمسِ، أمّا القَدْرُ (لُغَةً) في المنجد فَهُوَ جَمْعُ أقدارٍ بِمَعنى الطَّاقَةِ والقُوَّةِ، وفي المُعْجَمِ الوَسِيطِ القَدْرُ هُوَ المِقدارُ، وسُورَةُ القَدْرِ هِيَ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ مِنْ سُوَرِ القُرْآنِ الكَريمِ. فَخُلاصَةُ القَوْلِ مِمّا تَقَدَّمَ أعْلاهُ أنَّ القَدْرَ لُغَةً الشَّرَفُ وَالعَظَمَةُ، ويَدُلُّ مَعناهما على الارتِفاعِ إلى شَيْءٍ ما. أمّا بِالنِّسبَةِ إلى تَسْمِيَتِها بهذا الاسْمِ فآراءُ العُلَماءِ مُتَعَدِّدَةٌ حَولَ هذا المَعنى، ومِنَ هذِهِ الآراءِ أنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ ليلةُ تَقديرِ الأُمورِ وَقَضائِها، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِخَطَرِها وَشَرَفِها عَلى سائِرِ اللَّيالي، أمّا أوْقاتُ هذِهِ اللَّيْلَةِ بَعْدَ أنْ أجْمَعَ العُلَماءُ مِنْ سَردِ الأحاديثِ المُتَنَوِّعَةِ في ذِكْرِ لَيلَةِ الْقَدْرِ فَتَبَيَّنَ أنَّ لَيلَةَ الْقَدْرِ لَيْسَتْ بِليلةٍ ثابِتَةٍ بَلْ هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ مِنَ اللَّيالي العَشْرِ الأخيرةِ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ المُبارَكِ، ونظراً لِارتِفاعِ شَأنِها عِنْدَ اللهِ سُبحانَهُ وَتَعالى فَيَتَساءَلُ البَعْضُ حَوْلَ هذِهِ اللَّيلةِ، وَمِن هذِهِ التَساؤلاتِ:

1- ما هِيَ الحِكمَةُ مِنْ إخْفاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟

2- هَلْ أنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أمانٍ لِلْبَشَرِيَّةِ؟

3- ما هُوَ فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟

4- ما سَبَبُ نُزولِ هذِهِ السُّورَةِ؟

5- ما هِيَ عَلاماتُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟

6- لِماذا تَكونُ أعْمالُها في اللَّيْلِ؟

فَيَكُونُ جَوابُ هذِهِ التساؤلاتِ مِنَ الرِّواياتِ المَوثوقَةِ بِسَنَدِها والمَنْقولَةِ عَنِ العُلَماءِ، ومِنْها:

1- إنَّ الحِكْمَةَ مِنْ إخفاءِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بَعْدَ بَيانِ فَضْلِها وَشَرَفِها أنْ لَوْ عَرَفوها بِعَينِها لَقَصَدوها بِالعِبادَةِ وَأهْمَلوا سائِرَ الليالي، وَأمّا إذا لَمْ يَعرِفوها بِعَينِها فَإنَّ مَنْ يُريدُها مِنَ المؤمنينَ يَعْبُدُ اللهَ تعالى في جَميعِ اللَّيالي رَجاءَ أنْ يُوَفَّقَ لَها فَتَكْثُرُ عِبادَتُهُ وَيَتَضاعَفُ ثَوابُهُ.

2– نعم، لَيْلَةُ أمانٍ لِلْبَشَرِيَّةِ لِأنَّ النَّفسَ البشريةَ كَيْ تَعيشَ آمِنَةً في الحَياةِ الدُّنيا يَجِبُ أنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ عِدَّةِ أشياءَ، أوَّلُها وَأهَمُّها الخوفُ، والخَوْفُ مِنْ شَيْءٍ مَعلومٍ ثُمَّ الْهَمُّ والحُزْنُ الذي يَدخُلُ القَلْبَ وهذا قَدْ يَدخُلُ مِن شَيء غَيْرِ مَجهولٍ لَكَ ثُمَّ المَكْرُ أنْ يَمْكُرَ بِكَ غَيرُكَ كذلِكَ اختيارُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ لِتَعُمَّ الدُّنيا كُلَّها بِفضلٍ مِنَ اللهِ ورحمةٍ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ سَلامٌ وَأمْنٌ لِأنَّها تُذَكِّرُنا بالقُرآنِ الكريمِ الذي لَو اتَّبَعناهُ لَأذْهَبَ عَنّا الخَوْفَ والهَمَّ والحزنَ.

3- أمّا فَضْلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَهِيَ كثيرةُ العَطايا وَالمِنَحِ ومِنها: أ- إنَّ اللهَ تَعالى نَزَّلَ فيها القُرآنَ الكريمَ. ب- كَتَبَ فيها اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى الأعمارَ وَالأرزاقَ خِلالَ العامِ. ت- لَيْلَةُ القَدْرِ لا يَخرُجُ الشيطانُ فيها مِنْ أغْلالِهِ لِأنَّهُ مَغلولٌ في شَهْرِ رَمَضانَ كُلِّهِ. ث- نَزَلَ فيها المَلائِكَةُ إلى الأرضِ بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ.

4- إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ، وَعَنِ الإمامِ الحَسَنِ بْنِ الإمامِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِما السَّلامُ) أنَّ سَبَبَ نُزولِ هذِهِ السُّورَةِ هو فَترةُ إساءَةِ بني أُمَيَّةَ التي دامَتْ ألْفَ شَهْرٍ.

5- مِنْ عَلاماتِ هذه اللَّيْلَةِ أنْ تَكونَ ليلةً سَمْحَةً طَلِقَةً لا حارَّةً ولا بارِدَةً وَتكونَ صَبيحَتُها الشَّمْسُ فيها خَفيفَةً حَمْراءَ.

6- لِأنَّ هذا الوَقْتَ الذي تكونُ فيهِ العبادَةُ للهِ وَحدَهُ يَكونُ فيهِ صَفاءٌ وَهُدوءٌ وَصِدْقُ التَعبيرِ، فَالَّذي يُرائي لا يُمْكِنُ أنْ يَقومَ بالليلِ فإنَّ الذي يقومُ هُوَ الخاشِعُ للهِ سُبحانَهُ وَتَعالى وَالمُؤمِنُ بِهِ، فَنَجِدُ أنَّ الكثيرَ مِنَ المُسلِمينَ يَتَمَنَّوْنَ النَيْلَ مِنْ هذِهِ اللَّيلةِ وَأنْ يُوَفَّقوا لِأعمالِها وهي الدُّعاءُ والتَّوْبَةُ والاسْتِغْفارُ وَيُحاوِلُ أنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ طاقَتِهِ بِما يَسَّرَهُ اللهُ لَهُ ويُحافِظُ عَلى جَوارِحِهِ مِنَ المَعاصي وَينبَغي ألّا تَفُوتَهُ صَلاةٌ في جَماعَةٍ. وَمِنْ ناحِيَةٍ أُخْرى مُقارَنَةُ هذِهِ اللَّيْلَةِ مَعَ اللَّيالي الأُخرى المُبارَكَةِ كَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ وَلَيلةِ الجُمُعَةِ، فَإنَّ أكثرَ رُواةِ الحديثِ يُؤَكِّدُونَ أفضَلِيَّةَ هذِهِ اللَّيْلَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ مَنزِلَةِ هذه اللَّيالي عِنْدَ اللهِ سُبحانَهُ وَتَعالى، فَمَثَلاً عَنْ ليلة النِّصفِ مِنْ شَعبانَ فَهِيَ مُختَصَّةٌ بِخَمْسَةِ خِصالٍ وَهِيَ تفريقُ كُلِّ أمْرٍ حَكيمٍ، فضيلةُ العِبادَةِ، نُزولُ الرَّحمةِ، تَمامُ الشَّفاعَةِ. وَأمَّا عَنْ لَيْلَةِ الجُمُعَةِ وَمَنْزِلَتِها فَعَنِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (ص) يَقولُ: "يَغفِرُ اللهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ لِأهْلِ الإسلامِ أجمَعينَ" وَهذِهِ فَضيلَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِغَيرِها مِنَ اللَّيالي. وَلكِنْ تَبقى لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ اللَّيلةَ العُظمى كَما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى: "إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ مُبارَكَةٍ" أيْ كثيرة الخيرِ والبَرَكَةِ، وَيُنقَلُ عَنِ السيوطِيِّ في الدُّرِّ المَنْثور عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عن التّابِعِيِّ الجَليلِ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ (رض) إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أنْزَلَ اللهُ القرآنَ في لَيلَةٍ مِنْ أُمِّ الكِتابِ إلى السَّماءِ الدُّنيا ثُمَّ أنزَلَ بِهِ جِبريلُ (ع) عَلى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (ص) نُجوماً في عِشرينَ سَنَةٍ، ولا نَنْسى مِنْ جُمْلَةِ أسرارِها الإلهِيَّةِ المَكنُونَةِ هِيَ أسرارُ القَدَرِ وَالقَضاءِ مِمّا ضَلَّ وَغَوى فِيها الجُهَلاءُ وَتَحَيَّرَ فيها العُقَلاءُ ولَمْ يَتَخَلَّصْ عنها العُلَماءُ وَمِنْ هذِهِ الأسْرارِ:

1- إنَّ العَمَلَ الصّالِحَ في هذِهِ الليلةِ مُضاعَفُ وذو قَدْرٍ عَظيمٍ عِنْدَ اللهِ ويَكونُ مَقبولاً.

2- الرَّدُّ عَلى الَّذينَ جَحَدوا أنْ يكونَ القُرآنُ مُنَزَّلاً مِنَ اللهِ تَعالى.

3- التَنويهُ بِفَضْلِ القُرآنِ وَعَظَمَتِهِ بِإسنادِ إنزالِهِ إلى اللهِ تَعالى.

4- رَفْعُ شَأنِ الوَقْتِ الَّذي أُنْزِلَ فيهِ ونُزولُ المَلائِكَةِ في لَيْلَةِ إنزالِهِ. 5- تفضيلُ اللَّيلةِ التي تُوافِقُ لَيلةَ إنزالِهِ مِنْ كُلِّ عامٍ.

6- إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ (فاطِمَةُ الزهراءُ عليها السَّلامُ) فَمَنْ عَرَفَها فَقَدْ أدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَعَلى مَعرِفَتِها دارَتِ القُرونُ الأُولى، إلّا أنَّ الخَلْقَ فُطِموا عَنْ مَعرِفَتِها إلّا مَنْ كانَ مِنْ أهْلَ البَيْتِ عليهم السَّلامُ.

7- إنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ حَسَبَ التَّجارُبِ العِلْمِيَّةِ والأبْحاثِ العَمَلِيَّةِ الدَّقيقةِ الَّتي تُجريها وكالَةُ ناسا الأمريكيةُ بِأنَّ الأرضَ في كُلِّ يَوْمٍ تُضْرَبُ بِشِهابٍ يَصِلُ مِنْ 10 آلافٍ إلى 20 ألْفٍ وَلكِنْ في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ لا تُضْرَبُ بِأيِّ نَجْمٍ وَهذِهِ مِنْ أسرارِها المَخْفِيَّةِ. فَلِذلِكَ يَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَنْتَهِزَ هذِهِ الفُرصَةَ الَّتي مَنَحَها اللهُ لَنا مِنْ كُلِّ عامٍ وَنُنَمِّي ذَاتَنا بِالسَّكينَةِ والطُّمَأنِينَةِ وَالسِّلامِ حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ.