أثر المقام في توجيه الدلالة ( كلمة حق يراد بها باطل) أنموذجا.


الباحث: عماد طالب الخزاعي


الْحَمْدُ للهِ وَإنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلا اللهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلهٌ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ(صلى الله عليه وآله).

أما بعد:

فقد اتخذ أعداء الإمام علي (عليه السلام) طرائق قددا في نصب المكائد والمغالطات الدينيَّة والسياسيَّة، ولم يردعهم في ذلك رادع دين، ولا خلق، ولا عرف؛ بل تجاوزوا كلَّ ذلك وطفقوا يحققون مآربهم الدنيويَّة، وفي مقابل ذلك ثبات موقف الإمام علي(عليه السلام) على الحقِّ، واتخاذه المبادئ الدينية فلسفة لحكمه، قال الإمام (عليه السلام): ((وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ، وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهِ مَا أسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ))[1]ومن تلك الشعارات التي انبثقت من حرب صفين هي( لا حكم إلَّا لله) بعد أن رفع جيش معاوية بأمر منه وتدبير من عمرو بن العاص المصاحفَ على الرماح، لتكون حَكَمًا – بزعمهم- بين الإمام علي(عليه السلام) ومعاوية، وقد انطلت تلك الخديعة  ليس على جيش معاوية فقط، بل راح يهتف بها أكثر جيش الإمام(عليه السلام) ومضت الخديعة حتى اتخذها الخوارج شعارا، وقد فسَّرها الإمام (عليه السلام) ووضَّحها لهم على وفق المقام التخاطبي الذي ذِيعت فيه؛ إذ قال: (كلمة حق يُراد بها باطل)، وللمقام أثر فاعل في حلِّ ملابسات الخطاب، الأمر الذي ينبغي فيه محاكمة الخطاب في ضوء مقامه وتفسيره على وفقه؛ إذ لم ينتج الطرف الآخر هذا الشعار(لا حكم الَّا لله) لولا أن رأى برهان خسارته في المعركة، فاتخذها وسيلة على ما تحمله من مكر للخلاص من نهايته المحتومة؛ وقد فطن اللغويون العرب القدامى - وتابعهم المحدثون- إلى أنَّ اللغة ظاهرة اجتماعية وأنها شديدة الارتباط بثقافة الشعب الذي يتكلَّمُها, وأنَّ هذه الثقافة في جملتها يمكن تحليلها بواسطة حصر أنواع المواقف الاجتماعية المختلفة التي يسمُّون كلًّا منها (مقامًا), فمقام الفخر غير مقام المدح, وهما يختلفان عن مقام الدعاء أو الاستعطاف أو التمني أو الهجاء, وهلم جرا. وكان من رأي البلاغيين أن (لكل مقام مقالًا) لأن صورة (المقال) speech event تختلف في نظر البلاغيين بحسب المقام context of sotuation, وما إذا كانت تتطلب هذه الكلمة أو تلك, وهذا الأسلوب أو ذاك من أساليب الحقيقة أو المجاز, والإخبار أو الاستفهام[2],  ومن عباراتهم الشهيرة في هذا الصدد قولهم: ( لكل كلمة مع صاحبتها مقام)[3], وبهذا المعنى يصبح للعلم الجديد الذي يأتي من امتزاج النحو والمعاني(مضون)؛ لأنَّه يصبح شديد الارتباط بمعاني الجمل ومواطن استعمالها[4]، وما يناط بكلِّ جملة منها من (معنًى)[5].

فكرة (المقام) هذه هي المركز الذي ينبثق منه المنهج التداولي ويؤطر تحليلاته في الوقت الحاضر, وهو الأساس الذي يبنى عليه الشق أو الوجه الاجتماعي من وجوه المعنى الثلاثة, وهو الوجه الذي تتمثَّل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء (المقال)[6]، ومن المعروف أنَّ إجلاء المعنى على المستوى الوظيفي (الصوتي والصرفي والنحوي), وعلى المستوى المعجمي فوق ذلك لا يعطينا إلّا (معنى المقال) أو (المعنى الحرفي) بحسب اصطلاح النقاد, أو معنى ظاهر النص بحسب اصطلاح الأصوليين, وهو معنى فارغ تمامًا من محتواه الاجتماعي والتاريخي، منعزل تمامًا عن كلِّ ما يحيط بالنص من القرائن الحالية, وهي القرائن ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى[7].

 هذا ما أشار إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فاهمًا تمامًا لكل هذه الحقائق حين ردَّ على هتاف الخوارج (لا حكم إلّا الله) بقوله عليه السلام: (كلمة حق يراد بها باطل), فعبارة (لا حكم إلَّا لله) عبارة دينية لها وقعها في نفوس المسلمين بمعناها البنيوي - المعنى الحرفي- وهي تشير ضمنا إلى أنَّ المخاطَب بها لربَّما خرج عن مسلّمة دينية ما، لذلك نرى جواب الإمام علي (عليه السلام) كان دقيقا في تفنيد ظاهرها الحرفي بمعية المقام الذي قيلت فيه، وبذلك كانت الأبعاد التداولية حاضرة في ذهن المتكلم- الإمام-؛ إذ أقرَّ قيمة الشعار الديني الذي رفعه الخوارج في شطر جواب الإمام (عليه السلام) الأول عندما قال: ( كلمة حقٍّ) وهنا تعامل معه بنيويًّا، وفنَّده مقاميًّا بشطر جوابه (عليه السلام) الثاني بقوله: (يُراد بها باطل) استنادا إلى المواقف السِّيَاقيَّة التي واكبت استعمال (لا حكم إلَّا لله) وكأنَّ الإمام (عليه السلام) يعني أنَّ النَّاس ربَّما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف أي: بمعنى (ظاهر النص) فصدَّقوا أنَّ الخوارج أصحاب قضيَّة تستحق أن يدافع الناس عنها, وربَّما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تُفهمَ في ضوئه, وهو مقام محاولة إلزام الحجة سياسيًّا بهتاف ديني،  فالمقام في هذا الهتاف من السياسة، والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام.

 

 

[1] - نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 200.

[2] - ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها،  تمام حسان عمر،  عالم الكتب، ط5،  1427هـ-2006م: 337.

[3] - الإيضاح في علوم البلاغة، محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (المتوفى: 739هـ)، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي،  دار الجيل - بيروت، ط2: 1/ 43.

[4] - ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د محمود أحمد نحلة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2002: 9، و التداولية عند العلماء العرب - دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي، د. مسعود صحراوي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2005م: 15هامش المؤلف.

[5] - ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها: 337.

[6] - ينظر: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة،  عبد المتعال الصعيدي (المتوفى: 1391هـ)،  مكتبة الآداب ، ط17، 1426هـ-2005م: 1/ 25، و خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني،  محمد محمد أبو موسى، مكتبة وهبة ،  ط7: 73.

[7] - ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها: 338.