زين العابدين (عليه السلام) بين الإمامة والدعاء


د. عمَّار حسن الخزاعي


الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...

هو زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب[1]، وُلِد (عليه السلام) في سنة ثمان وثلاثين، وقُبض في سنة خمسٍ وتسعين من الهجرة النبوية المباركة، وقد بلغ من العمر سبعا وخمسين سنة[2]، أمَّا مدة إمامته (عليه السلام) فكانت أربعا وثلاثين سنة، عاصر فيها بقية ملك يزيد، وملك معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وابنه عبد الملك بن مروان، وتوفِّي في ملك الوليد بن عبد الملك[3]، وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين[4]، وكان له جلالة عجيبة، وحقَّ له ذلك، فقد كان أهلا للإمامة العظمى؛ لشرفه، وسؤدده، وعلمه، وكمال عقله[5]، وهو ((ثقة ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، قال ابن عيينة عن الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه))[6]، وكان زين العابدين عظيم التجاوز والعفو والصفح، وقد ورث من أبيه العلم والزهد والعبادة[7]. قال عنه المناوي: ((زين العابدين، إمام، سند، اشتهرت أياديه ومكارمه، وطارت بالجوِّ في الوجود حمائمه، كان عظيم القدر، رحب الساحة والصدر، رأسا لجسم الرئاسة، مؤمّلا للإيالة والسياسية))[8]. وقد ترجم له (عليه السلام) أعلام المسلمين فلم يذكروه إلاّ بالسيادة والشرف، والتقى والعلم، والعبادة والفضل، والحكمة والكرم، وحسن التدبير، وكثير منهم وصفه بالإمامة[9]، أمَّا الإمّامية فقد اتفقوا ((على أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصَّ على علي بن الحسين، وأنَّ أباه وجدّه نصّا عليه، كما نصَّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّه كان بذلك إماما للمؤمنين))[10].

عاصر الإمام السجاد (عليه السلام) قمّة الاستهانة بالدماء المسلمة، عبر أبشع الجرائم التي خلّفت آلاف القتلى من المسلمين، بدءا من مذابح بسر بن أرطأة الذي أمره معاوية بن أبي سُفيان بقتل ((كلِّ من كان في طاعة علي [عليه السلام]، فقتل خلقا كثيرا))[11]، مرورا بجرائم زياد بن أبيه الذي تتبّع بأمرٍ من معاوية كلّ من والى عليا (عليه السلام) بالقتل والتشريد[12].

ثمَّ واقعة كربلاء، التي كان (عليه السلام) حاضرا فيها بكلِّ تفاصيلها، إذ حُوصِر الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته، وثلة من أصحابه في كربلاء، ومُنعوا شرب الماء[13]، وقد تسابق جيش حاكم المسلمين لقتل أولاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقتلوا النساء[14]، وحتَّى الأطفال[15]، ولم يكتفوا بذلك إذ هجم الجيش على الخيام والحُلل والإبل فانتهبوها، وحال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه ينتهبونه[16]، و((تسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقُرّة عين الزهراء البتول،... وخرجْنَ بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحريمه يتساعدْنَ على البكاء ويندبن لفِراق الحماة والأحبَّاء))[17]. وبعد فصول الفاجعة الأليمة، جُمعت النسوة مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) المريض وأُخذوا سبايا إلى الشام مركز الخلافة، التي كانت تنتظر موكب السبايا بشغفٍ من أجل البدء بمراسيم الاحتفال بقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسبي بناته[18].

وبعد واقعة كربلاء تحصل جريمة أخرى لا تقلُّ عنها بشاعة وهي واقعة الحرّة، وممَّا قيل في وصفها: ((أباح مسلم بن عقبة - الذي يقول فيه السلف (مسرف بن عقبة) قبّحه الله من شيخ سوءٍ ما أجهله - المدينة ثلاثة أيّامٍ كما أمره يزيد - لا جزاه الله خيرا - وقتل خلقا من أشرافها وقرّائها، وانتهب أموالا كثيرة منها... ووقعوا على النساء حتى قيل: إنّه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوجٍ. قال المدائني عن هشام بن حسان: ولدت ألف امرأةٍ من أهل المدينة بعد وقعة الحرّة من غير زوج، وروي عن الزهري أنه قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي وممن لا أعرف من حرٍّ وعبد وغيرهم عشرة آلاف))[19]، ثمَّ حادثة حصار الكعبة وإحراقها وهدمها بالمنجنيق من لدن الحصين بن نمير[20]، بعدها يأتي الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ((لا يصبر عن سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره))[21]، وقد مات في سجنه خمسون ألف رجلٍ، وثلاثون ألف امرأةٍ منهنَّ ستُّ عشرة ألف مجرَّدة، وكان يحبس في سجنه خليطا من الرجال والنساء[22].

ومن هنا كانت المرحلة التي عاشها الإمام زين العابدين (عليه السلام) من أقسى المراحل التي مرت على أهل البيت، لأنه عاصر بداية قمّة الانحراف[23]، ((وكان فيها... ممتحنا أكثر من سائر الأئمة))[24]

ولذلك كان الدعاء خير وسيلة في ذلك العصر للوصول إلى قلوبهم والتأثير في مشاعرهم، إذ كانت الأمة الإسلامية غارقة في كلِّ ما يؤدي إلى الابتعاد عن الله تعالى، بسبب خذلان بعضها بعضا، وما أبدته من تساهلٍ في تعاملها مع الظالم، سواء أكان بمعاونته أم الرضا بفعله، أو السكوت على ظلمه، ما جعل مجموع الأمّة الإسلامية تكون في جهة الاتِّهام أو على الأقل التقصير في عدم نُصرة الحسين (عليه السلام)، أو الدفاع عن المدينة ومكة المكرّمة، أو في الاستكانة للحجاج وأسياده من الحكام الظالمين. فكان لا بُدَّ من حركةٍ توعوية تُرشد الأمّة إلى طريق الخلاص ممَّا هي فيه من واقع التقصير في جنب الله تعالى، وتفتح لها آفاقا جديدة في إعادة العلاقة وترميمها مع الله تعالى، وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين. وهنا يُطرح الدعاء بوصفه مشروعا إصلاحيا مناسبا لهذه الأجواء، إذ به يمكن الوصول إلى تلك القلوب التي عرفت حقَّ الحسين (عليه السلام) وندمت على عدم نُصرته، وبه يمكن التأثير في القاعدة التي أحسّت بتقصيرها في ذات الله تعالى بسكوتها عن الظالم وتصرفاته إلى أن تسلّط على رقاب المسلمين، وكذلك به يمكن تحريك الضمائر التي ما زالت منغمسة في عصيانها. ولذلك اتخذ منه الإمام (عليه السلام) أداةً لمحاكاة الضمير الإنساني، ومناجاة عواطفه، وسبيلا يُرضي طموحه في إعادة ترتيب العلاقة مع الله (تعالى)، ومن هنا مثَّل الدعاء خير وسيلة في تصحيح المسار للأمّة الإسلامية بإعادتها إلى الله تعالى من جانب، وبترميم العلاقة مع أهل البيت (عليهم السلام) من جانب آخر، وكلا الأمرين يؤتي أكله بالاعتراف بالذنب وطلب المغفرة .

السلام عليكَ أيُّها السجَّاد ورحمة الله وبركاته

 

 

([1]) ينظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: 2/ 127.

([2]) ينظر: الكافي: 1/ 466، مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: 4/ 189.

([3]) ينظر: بحار الأنوار: 46/ 13.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) سير أعلام النبلاء: 4/ 398.

([6]) تقريب التهذيب: 2/ 35.

([7]) ينظر: الصواعق المحرقة: 119.

([8]) الكواكب الدُرّية: 2/ 139.

([9]) ينظر: جهاد الإمام السجاد (عليه السلام): 36.

([10]) أوائل المقالات في المذاهب المختارات: 47.

([11]) تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 6/ 157، ينظر: الكامل في التاريخ: 4/ 209.

([12]) ينظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: 3/ 595.

([13]) ينظر: مقتل الحسين ومصرع أهل بيته وأصحابه في كربلاء (المشتهر بمقتل أبي مخنف): 98.

([14]) كأم وهب، ينظر: تاريخ الأمم والملوك (المعروف بتاريخ الطبري): 5/ 429.

([15]) ينظر: مقتل الحسين، الخوارزمي: 2/ 32، البداية والنهاية: 8/ 188.

([16]) ينظر: مقتل الحسين، الخوارزمي: 3/ 434 ، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد:2/112 ، الكامل في التاريخ: 3/ 295.

([17]) اللهوف على قتلى الطفوف: 180.

([18]) ينظر: بحار الأنوار: 45/ 127.

([19]) البداية والنهاية: 8/ 220، ينظر: بحار الأنوار: 46/ 139.

([20]) ينظر: المصدر نفسه: 5/ 498.

([21]) حياة الحيوان الكبرى: 1/ 167.

([22]) ينظر: المصدر نفسه: 1/170، معجم البلدان: 5/ 349.

([23]) ينظر: الأئمة الإثنا عشر (دراسة تحليلية): 142.

([24])المصدر نفسه: 142.