بينَ شهادتين


الشيخ الدكتور خيرالدين الهادي


قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}. الحج 5.

لا يخفى أنَّ قوام الحراك البشري يدور بين شهادتين؛ شهادة ميلادٍ وشهادة وفاة، فما بينهما يكتنزه الإنسان ليستعدَّ لمرحلة جديدة من الحلقات والعوالم التي تترادف بالانتقال من عالمٍ إلى آخر، وهذه المسيرة التي ابتدأت بأبهى صور الضعف؛ إذ ندخل إلى هذه الدنيا عادة بالبكاء والعويل والناس من حولنا يضحكون لا بدَّ لها أنْ تنتهي إلى يوم نغادر إلى النهاية التي حكمها الله تعالى خاتمة لكل حيٍّ في هذه الدنيا والتي نرجو أنْ نتركها بابتسامة والناس من حولنا يبكون وينحبون.
إنَّ السرعة التي نسير بها من لحظة دخول هذه الدنيا إلى لحظة الخروج منها لن تتخيلها طالما أنت تتمتع بلحظات الحياة الهنيئة التي تستبطن الآمال الطويلة واتباع الأهواء الكثيرة فما هي إلا أيامٌ نقلِّبها أو سنوات نطويها ليأتيَ النداء بالتوقف المفاجئ الذي لم نتهيأ له، وما أكثر المشاهد التي يتوافق فيها الوقوف بين شهادتين ولاسيَّما حين تقف عند كاتب الشهادات في المشفى فتجده يُحرر في وقت واحد شهادة ولادة لصغير ضعيف وشهادة وفاة لآخر كان يتباهى بقوته التي فضحته سكرات الموت التي لا تمهل غافلا.
والمهم في الأمر أنّه ينبغي أنْ ندرك أنَّ هذه المحطات كلها تسير بمراقبة إلاهية عميقة، فالأيادي الرحيمة هي التي صاحبت دخولنا إلى دار الدنيا هي التي ترافقنا في دفع الأقدار والبلايا ولن تتخلى عنا ونحن نودع راحلين إلى العوام الأخرى، فعلينا أنْ نتدارك ما تبقى من مدة أعمارنا بالرجوع إلى الفطرة السليمة التي فطرنا الله عليها وأنْ لا نتجاهر بالمعصية ونتظاهر بالقوة ونحن في تمام العجز والضعف تنتقلُ بنا الإرادة القوية لله تعالى من هيئة الطفل الصغير إلى أن يشتدَّ عودُنا فيقبضُ من يشاء ويؤخِّر من يشاء إلى أنْ يبلغ أرذل العُمُر ليعيش بعد الضعف قوَّة وبعد القوة ضعفًا، فيصوِّر لنا مشاهد قوّة الله تعالى وضعفنا وعجزنا؛ بل وانقيادنا له طوعا وكرها فهل في ذلك عظة للغافلين؟
إن العِبَرَ كثيرة ومتعددة ولكن قلَّ المعتبرون، فلا يزال هناك كثير ممن يتصور أنَّ الحياة لعبة نبتدِؤها بدخول الدنيا ونختمها بالخروج منها وليس هناك حساب ولا كتاب وكأننا وحوشٌ أو بهائم، وهذه الرؤيا غلبت أذهان المتأملين والطامحين فزاغوا عن الثوابت وباتوا من أدوات الشرِّ التي قتلت البراءة في النفوس فتجسدت في هيئة حيوانات بشرية لا تقفه غير لغة المعصية والرذيلة وباتت تتصوَّر بأنَّ الاستعداد للآخرة ترفٌ فكري وإنزواء وضعي يتقمَّصه الضعفاء لأنَّهم فشلوا في مواكبة التحضُّر المزيَّف الذي غزا أفكار المرضى من أصحاب النفوس الدنيئة والخبيثة ففاتهم فرصة الرجوع بإصرارهم على المعصية التي قد تبدوا صغيرة ولكنَّها كبيرة عند الله.
ثمَّ في نهاية المطاف وفي لحظة الخروج للحساب لنْ يجد المسرف غير نفسه من يدفع فاتورة الحساب، وهذا بحدِّ ذاته درسٌ بليغ لمن عِقِل الأمور وجعلها في مضانها الأصيل لأنَّ الفُرَصَ ليست متعدِّدة؛ بل قد لا تكون هناك ثانية فالدنيا لا ندخلها إلّا مرَّة واحدة وعليها يتوقف المصير المحتوم فأمَّا سعادة وهناء وأمَّا تعاسة وشقاء وهذا كلَّه لمنْ ليس له قدرة على ردِّ أمر الله وأمَّا من له القُدرة على ردّ أمر الله فليفعل ما يشاء، فهل من معتبر؟.