أنا وأنت وهو


 
 
قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) سبأ 24.
في ظل صراع الإرادات الحاكمة التي تحيط بالإنسان وسط جنسه الذي يشايعه في كثير من المشتركات السلوكية والفكرية ويتقاطع معه في بعضها يحاول كلٌّ منا إثبات نفسه وهُويَّته بما يسعه من المحاولات التي تختلف في وسائلها وسُبلها لينتج عنها سلطة وجدانية تختلج في دواخلنا وتقودنا إلى شبهةٍ نتصور فيها أنَّ التمام والكمال لا يغادرنا والنقص قرين من يخالفنا, وبذلك تتسع الهُوَّة بيننا ولا يستقرُّ أمرنا, فكلٌّ ينشغل بنقص غيره ولا يلتفت إلى ما ينقصه بعد أن انغمس في لذات البحث عن سقطات غيره ففاته ما سقط منه. 
أمَّا الخطاب القرآني فقد وجَّه معالجة الذات في محور (الأنا) بمحاورة الآخر المتمثِّل بـ (أنت), ولم يتغافل عن الغائب الذي تضمَّنه (هو), فكل الذوات في ميادين الصراع من أجل إثبات الهوية تسعى إلى إظهار البعد الإيجابي وتتغافل عن الجوانب السلبية التي تكمن فيها خطورة النقص؛ لذلك أكَّد الخطاب القرآني على لغة أخرى في الحوار لقبول الآخر بما هو عليه, من منطلق إنَّي أتبنى الصحيح وقد يراودني الخطأ وغيري يتبنى الخطأ وقد يكون مصيبا, وهذه اللغة بحدِّ ذاتها لها القدرة على استيعاب الآخر بالرغم من شراسته وهيمنته كما أنا.
وقوله تعالى((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ)) يخلق جوًّا من القبول من لدن الآخر المتمثل بـ (أنت)؛ إذ يُشعره بأنَّ احتمالية خطأ المنتج وصحة المتلقي غير بعيدة؛ لذلك يمكنه أن ينسجم مع الخطاب ويتراجع بقصد مراجعة الذات لاحتمال وقوع الخطأ في مرحلة ما من الحوار, وهذا الأمر يحقق منجزا في مجال التنمية البشرية بأسلوب قرآني من شأنه أن يهب ثقافة قبول الآخر إلى حدٍّ ما من دون اللجوء إلى الحكم غيابيا أو مسبقا كما في كثيرٍ من اللقاءات والمجادلات التي فقدنا فيها قدرة استيعاب الآخر ففقدنا بذلك فرصة الوصول إلى المساحات المشتركة التي نتفق على كثرتها بين الفُرقاء.
إننا جميعا بحكم اختلاف الثقافات والمشارب نتفق على ضرورة التواصل وإنتاج الخطاب بما يتوافق مع قدرة المتلقي على الاستقبال, فليس من الحكمة النفخ في البوق المفتوح الذي يتسبب في هدر طاقاتنا من دون أن نحصل على أدنى طموحاتنا؛ ومن هنا فإنَّ الاحتكام إلى المناهج السماوية في الوصول والتواصل أقرب من غيرها التي جاءت عرضيَّة عبر نظريات مفضوحة قد يُفاجؤها العيب والتغيير بمرور الزمن, على خلاف القوانين السماوية القرآنية التي جاءت شفاء لما في الصدور واستوعبتنا أنا وأنت وهو عبر سلسلة من الحقوق متبوعة بواجبات تضمن صلاح حالنا ونهضة مجتمعنا.
 
 
الشيخ الدكتور خيرالدين الهادي