عندما يكون القرآن يقينا


 
 
لا مجال لنا أن نرى القرآن مصداقا ويقينا إلّا في قلوب محمد وآل محمد صلوات الله عليهم فهم ترجمانه ومن جسدوه في حياتهم المباركة، وخير مثال حياة السجاد عليه السلام بدءا من الاستئناس بالذكر الحكيم إذ قال: "لو مات مَن بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي"(١)
وبلا شك لا تنحصر ملازمة المعية على مستوى الإقراء فقط، وهذا من شأنيتهم عليهم السلام حيث لم يقفوا عند هذا الحد وهم أهل لجمال وحسن القراءة لما لها من تأثير بالغ فقد روي عن صادق الآل قوله: "كان علي بن الحسين صلوات الله عليه أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان السّقاؤون يمرون فيقفون ببابه، يسمعون قراءته"(٢)
وعن محمد بن حسن بن شمون قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ذكرت الصوت عنده فقال: (إن علي بن الحسين  كان يقرأ فربما مر به المار فصعق من حسن صوته، وإن الإمام لو أظهر من ذلك لما احتمله الناس من حسنه)، قلت: ولمَ يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يحمل الناس من خلفه ما يطيقون) (٣)
وعلى الرغم من أهمية حسن أداء التلاوة الذي يشغل الكثيرين إلّا أنهم عليهم أفضل الصلوات والسلام أرادوا منا التطبيق الواقعي في الحياة العملية، أي أن يكون القرآن يقينا في صدورنا نحن الذين آمنا ثم يتمثل في كل تحركاتنا وتصرفاتنا مع الآخرين، وإحدى المصاديق ما روي عن حلم الإمام عليه السلام: (جعلت جارية لعلي بن الحسين عليهما السلام تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه فرفع علي بن الحسين عليه السلام رأسه إليها فقالت الجارية: إن الله عزّ وجلّ يقول: " والكاظمين الغيظ " فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت " والعافين عن الناس " قال لها: قد عفى الله عنك، قالت: 
" والله يحب المحسنين " قال: اذهبي فأنت حرة) (٤)
 
وما يجدر الالتفات إليه هنا هو مستوى نباهة وحفظ الجارية لآيات الكتاب الكريم إلى جانب توظيفها في حياتها العلمية، وهذا عين ما يريده أهل البيت عليهم السلام منا، وكان موقف الإمام سلام الله عليه منها ترجمان للمعنى الحقيقي ومراد الله عزّ وجلّ، فهو يعلمنا كيفية العمل بآيات الله عزّ وجلّ و يضع لنا منهاجا ودستورا للرجوع إليه في كل مواقف وابتلاءات الحياة، 
وأن لا نجعل من أحكامنا الابتلائية أزمة اجتماعية فعلى العكس تماما جاءت آيات الله رحمة للعباد في حل وتيسير كثير من الأمور حتى أنه عليه السلام كان " كثيرا ما يستشهد بآيات من القرآن الكريم ويستدل بها ، وعندما يجد مناسبة يعرج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردية التي كان يعيشها المسلمون"(٥)
وهذا يدل على قرب الإمام من المحيط الاجتماعي للمسلمين وكيفية تعامله معهم بإحياء كتاب الله في نفوسهم، وهكذا يكون الرسالي القرآني في تصديه للواقع، لكن كم منا يعيش هذا الدور اقتداء ومواساة بالإمام؟
والأجدر من ذلك كيف يفهم الآيات عن طريق الإمام ليطبق ما أراده الله تعالى؟
كم هو الطريق طويل لهذه العظمة المحاطة ببركات فهم الوحي الكريم حيث يكون القرآن ميزانا للحق كما يروى عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: " وميزان قسط لا يحيف عن الحق لسانه" (٦)
وبهذا اليقين والتصديق كان يعتقد أهل البيت عليهم السلام في استئناسهم بالقرآن الكريم عمليا وتطبيقا ليكون نهجا للحياة على مَرِّ العصور والدهور وطريقا لأسمى الأهداف وهو التكامل نحو الآخرة.
 
بقلم: يقين محمد نعمة
__
(١)وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٥ - الصفحة ٣٣١
(٢)الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٦١٦
 
(٣)موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) - الشيخ هادي النجفي - ج ٩ - الصفحة ١٠٧
(٤)بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٦ - الصفحة ٦٨
(٥)جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - الصفحة ٨٧
(٦)الصحيفة السجادية (أبطحي) - الإمام زين العابدين (ع) - الصفحة ١٩٤