قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1)، والآية مطلقة في الجعل الكلّي للخلافة والإمامة، والخلافة هي ولاية مطلقة، والنيابة هي ولاية متوسّطة، والوكالة هي ولاية ضعيفة. والقرآن الكريم لا يستعرض بصراحة نبوّة آدم بل صرّح بخلافته، لذا أنكر بعض المنحرفين نبوّة آدم لعدم التصريح بذلك في الآيات.
قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ}، فاعتراضهم من جهة ولاية آدم وليس في تبليغه كنبيّ.
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ}، وتعليم الأسماء ليس فيه بعثٌ لآدم في مقام النبوّة، فهي ليست شريعة ولا منهاجاً، بل حقائق مقامات تكوينية مرتبطة بأصل الديانة والولاية الإلهية.
والآية بينت أنّ ولاية آدم ليست مختصّة في الأرض، بل هي شاملة على الملائكة والإنس والجنّ، فالكلّ تُفترض عليه طاعة آدم.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2)، والاصطفاء لا يختصّ بالنبوّة، بل يعمّ سائر المقامات والفضائل والكمالات اللدنية الوهبية، هذا الاصطفاء كالجنس العامّ للمقامات الغيبية; وذلك لدخول مريم (عليها السلام) في آل عمران مع كونها غير نبيّ بل كونها حجّة، فالاصطفاء إذن هو اجتباء للطهارة والعصمة وللمقام من المقامات الغيبية.
النموذج الثاني: إبراهيم (عليه السلام)
قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(3)، إنّ أصل الإمامة ليس هو مجرّد منصب اعتباري، بل هو منصب تكويني غيبي، وجعل إبراهيم إماماً إحدى درجاته النازلة هو الإدارة الظاهرة المعلنة أو الخفية لشؤون البشر، وتزويده بالعلم اللدني وجعله إماماً هو مقام غيبي يغاير مقام النبوّة.
وإذا كانت الهداية الإراءية أي بقاء الشرائع والتي هي من مهام الأنبياء غير منقطعة في أي حقبة من حقبات البشر، فإنّ الهداية الإيصالية التي هي من مهام الإمامة غير منقطعة كذلك، ومعنى ذلك أنّ الإمامة لا يمكن أن تنقطع أبداً، فمنصب الإمامة يؤكّده القرآن كسنّة إلهية، وليس هو بدعاً في العقيدة بل عقيدة قرآنية راسخة.
قوله تعالى: {تِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}(4)، ومعنى الإيتاء هنا هو الإيتاء بالعلوم اللدنية والمقامات الإلهية التي ليست زائدة على شؤون النبوّة وحيثياتها.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}(5)، فإيتاء الكتاب والحكمة يغاير النبوّة، بشهادة سياق التعداد لبيان تنوّع النعم والمنن على بني إسرائيل، فكيف يُدّعى أنّ إيتاء الكتاب والحكمة هي النبوّة؟ ويعلم من الآية الكريمة أنّ الذي عنده علم الكتاب ليس بالضرورة أن يكون نبيّاً كما هو الحال في آصف بن برخيا صاحب سليمان كما تقدّم. بل القرآن فيه موارد متعدّدة تدلّل على أنّ الإيتاء غير النبوّة.
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمـًا}(6)، فالكتاب والحكمة وإيتاء الملك العظيم ليس يتعلّق بحيثيات النبوّة، والملك سنخ ملكوتي لدني وليس سنخ اعتباري، ومن هنا يُفسّر الملك العظيم كما في الروايات بأنّه الإمامة.
لأنّ الملك مصحوب بالقدرة نظير عنوان الخلافة، كما في آدم زوّد بالأسماء ثمّ سجدت له الملائكة، فقدرته نابعة من الأسماء التي علّمها الله تعالى إيّاه.
ودُعّم هذا المعنى بنفس الآية في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}، وهذا هو الملك العظيم الذي هو القدرة وطاعة وخضوع جميع الملائكة في السموات والأرضين وائتمارهم للخليفة فضلاً عمّن هو تحت سيطرة الملائكة.
قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(7)، يُعبّر عن الإمامة بتعابير مختلفة، فمرّة يُعبّر عنها بالملك، وأُخرى يُعبّر عنها بالخليفة والإمامة، ورابعاً يُعبّر عنها بالكلمة، وإلى غير ذلك.
وذهب بعض أهل سنّة الخلافة بأنّ الكلمة هي كلمة التوحيد، أي مجرّد قول لا إله إلاّ الله على اللسان، وهذا غير موافق لظاهر الآية; لأنّ إطلاق الكلمة قرآنياً لا يقتصر على الكلمة لفظياً، فقد أطلق على عيسى بكلمة الله، فالحجج الإلهية هم كلمات الله تعالى، والكتاب التكويني هو الذي تجمع فيه الكلمات جميعاً، أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو كتاب اعتباري جُمعت فيه الكلمات الاعتبارية.
وقوله تعالى: {يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}(8) أي يقيم الحقّ بكلماته، بيان للقائمين بالهداية الإرائية والإيصالية، والكلمات هم الحجج الذين يتولّون مهام الهداية الإرائية، ومن ثمّ مهام الهداية الإيصالية كذلك.
وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ}(9) وإراءة الملكوت مقام زائد على مقام النبوّة، ومن ثمّ امتاز به إبراهيم على جملة من بقية الأنبياء، والملكوت هو الجانب الأمري والسلطة على كلّ مخلوق والذي هو بيده تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة البقرة 2: 30.
2- سورة آل عمران 3: 33 - 34.
3- سورة البقرة 2: 124.
4- سورة الأنعام 6: 83.
5- سورة الجاثية 45: 16.
6- سورة النساء 4: 54.
7- سورة الزخرف 43: 28.
8- سورة يونس 10: 82.
9- سورة الأنعام 6: 75.