في البدء كلمةاللّغة في الأصل وبشكل عام لها ماهية صوتية وتأخذ أغلب استعمالاتها صورةً سماعيةً، فالجانب الصوتي في اللّغة يمكن أن يكون منشأً لدراسات وتحقيقات عديدة، والقرآن أيضاً باعتباره لغةً خاصةً، له آثار ونتاجات متعدّدة مرتبطة بالجانب الصوتي للقرآن.في هذه المقالة سوف نتعرّض في البداية إلى الجوانب الصوتية للّغة بشكل عام، وعلى أساسها سوف نأخذ القرآن كلغةٍ خاصةٍ، ونركّز على الجانب الصوتي فيه، فالصوت والتنغيم (اللّحن) في القرآن الكريم عامل أساس ومؤثّر بشكل مباشر على الجوانب التربوية للقرآن الكريم؛ فصوت وتلاوة القرآن الكريم تُؤثّر بشكل واضح على جسم الإنسان وروحه، وتبعث فيه نوراً إلهيّاً، وهذه الآثار لا نجدها بشكلٍ جليٍّ في القراءة الصامتة للقرآن الكريم.تُظهر التحقيقات الصوتية أنّ لحن وموسيقى اللّغة بالإضافة إلى ميزان نقاء أصواتها له الأهمّية القصوى في مجالات متعدّدة، ولهذا نجد اللحن والموسيقى ذات أهمّية وخصوصية مضاعفة في لغة القرآن الكريم.مقدّمةأجرى الله تعالى علمه وقدرته في ميدان الكون بخلق الظواهر والغرائب العديدة، ونفس هذا العلم والقدرة أجراهما في وادي العلم والمعرفة بإرسال الكتب السماوية وفي خاتمتها القرآن المجيد، وقد أرسل هذه الآيات الخاتمة بطريقة الصوت واللّغة، حيث أطلق عليها (اللّسان المبين)، وتعهّد بصونها وحفظها دون الكتب السماوية الأخرى، ممّا يدعونا إلى التأمّل بدقّة وموضوعية في هذا الأمر.القرآن الكريم هو لغة، واللّغة لها ماهية سمعية وصوتية وعلى ارتباط وثيق بأذن الإنسان، والبصر والسمع لهما الأفضلية على باقي الحواس الخمس، فحاسّة البصر مفيدةٌ لنا لرؤية الصور وإدراك الألوان والأشكال والأوضاع المادية.يمكن للنفس البشرية أن تدرك حاسّة البصر والسمع في داخلها، ولكن حاسّة الذوق واللّمس والشمّ فهي بحاجة إلى أعضاء خاصة وحركات خاصة بها.أمّا السمع فهو عبارة عن حالة التكامل بين العقل النظري والجزء المخصَّص لإدراك الأمواج الصوتية والألحان المتدرّجة والمتحرّكة باستمرار.في الوقت الذي يعتبر فيه علماء العلوم والفيزياء والفيزيولوجيا أنّ حاسّة السمع هي الحاسة الأكثر تجريداً من بين حواس الإنسان، فهي ـ في الواقع ـ الحاسة التي تبدأ بالعمل قبل جميع الحواس وتتعطّل عن العمل قبل جميع الحواس أيضاً، وهي الطريق المباشر لعالَمنا الداخلي ولها تأثير كبير على بدن الإنسان سواءً من الناحية الفيزيائية أو من ناحية ضبط الأعصاب والتحكّم فيها.السمع هو أساس جميع أنواع اللّغات والمعارف والمهارات الأخرى، وله الفضل الأكبر في انتقال المعاني، ولهذا فهو يرتبط بطبيعة الإنسان وحتى بالنفس الإنسانية وفيزيولوجيتهما.يمكننا القول أنّ القرآن الكريم هو صوت الله، صوتٌ أُعطيَ لنا عن طريق الأذن حتى يخرج من حنجرة كل فرد منّا، ولقد دعانا الله تعالى إلى أن ننطق بهذه العبارات والألفاظ بنفس اللّحن واللّون الخاص بتلاوتها في القرآن لنجعل صوت القرآن يعمّ كافة أرجاء المعمورة.ولحسن الحظ، إنّ معظم المسلمين وبنسبة شائعة قد التفتوا إلى أهمّية تلاوة القرآن الكريم وليس لزوماً إلا بحِرفية ومهنية.فقياس الأصوات في لغةٍ ما، يشكّل القسم الأهمّ والأساس في الدراسات المتعلّقة بتلك اللّغة، هذه الدراسات تشمل مطالعة الخواص الفيزيائية للحروف وفيزيولوجيا نطقها، وترتبط أيضاً بموسيقى اللّغة.من جهة أخرى، فمنذ بدء النزول كان القرآن الكريم مصدر إلهام للعلوم والفنون المختلفة، وواحدة من الأشياء التي سوف نتوجّه إليها في مقالتنا هذه هو موضوع تلاوة القرآن الكريم والالتفات إلى جوانبه الصوتية المختلفة وألفاظه المتنوّعة.فمنذ البدء كانت تلاوة القرآن السبب في وجود نغمٍ موسيقيٍّ خاصٍّ للآيات والعبارات القرآنية، ومنذ ذلك أخذ القرآن حالة التلاوة المتناغمة تلك وأصبح يُتلى بكل اللّغات عند جميع الأقوام بشكله المتناغم والمتواتر.تؤكّد هذه المقالة على لزوم وترويج استماع القرآن والتعامل معه بشكل حيٍّ وبطريقة مسموعة ومنطوقة.كما أشرت سابقاً، إنّ هذه المقالة قد استعانت ـ لتبيين هدفها ـ باللّغة وأصواتها بشكل عام تارةً، وبصوت القرآن ولغته بشكل خاص تارةً أخرى. ولكلا هذين القسمين فروع وأقسام أخرى، حيث اعتمدنا في كلٍّ منهما في بحثنا على الآيات والإشارات الموجودة في القرآن، وعلى منابع أخرى من خارج القرآن، وفي النهاية وضعت استنتاجاتي ومقترحاتي.الجانب الصوتي في اللّغةعرّف علماء اللغة (اللغة) على أنّها مجموعة معقّدة من النُّظم الذهنية المجرّدة، أو يمكنني القول >إنّ اللغة هي ظاهرة بسيكولوجيّة اجتماعيّة ثقافية، لا صفة بيولوجية ملازمة للفرد، تتألّف من مجموعة رموز صوتيّة لغوية، اكتَسَبت عن طريق الإختبار معانٍ مقرّرَة في الذهن. وبهذا النظام الرمزي الصوتيّ، تستطيع جماعة ما أن تتفاهم وتتفاعَل<. والأصوات على أنّها مجموعة من الأمواج الهوائية التي يتمّ إدراكها عن طريق الأذن، ولأنّ الأمواج الهوائية تعتبر نوعاً من المادة، فلذلك لايعتبرون الصوت جزءاً من النظام الذهني.ولهذا يمكن القول: إنّ نسبة الصوت إلى اللّغة هو نفس نسبة مجموعة الأوتار الموسيقة إلى آلة موسيقية مع طريقة العزف عليها، حيث إنّ دراسات علم اللّغة على النظم المجرّدة الذهنية يمكن تحقيقها فقط عن طريق ظواهر المادة وآثارها عليها، وعليه فإنّ الدراسات اللغوية لابد أن تبدأ بدراسة أصوات اللغة.يرى أغلب علماء اللغة أنّ اللغة لها ماهية صوتية وسمعية، وعليه يمكن القول: إنّ الجانب الصوتي والشفهي له أهمّية كبيرة ومتقدّمة على الصورة المكتوبة للغة. إنّ أهمية هذا الموضوع وآثار الأبعاد الصوتية للقرآن في اللغات المختلفة له طابع مميّز وصبغة ثقافية ظاهرة في صدر هذه اللغات وبالأخص لغة القرآن (اللّسان المبين). إضافة إلى ذلك، إنّ اللغة التي يستعملها الإنسان هي نظام معقّد وكبير ونتيجة تعاون ثلاثة أجهزة صغيرة أخرى هي: (الجهاز الصوتي) و(جهاز القواعد) و(جهاز المفردات).عندما يريد علماء اللغة أن يتحدّثوا عن اللغة وطريقة بنائها، فإنّهم يتحدّثون عن نظامها الصوتي والقواعدي ولايعطون اهتماماً كبيراً لنظام مفرداتها، حيث يرى علماء اللغة أنّ ما يميّز لغة عن أخرى هو بناء هذه اللغة الذي هو على ارتباط وثيق بجهازها الصوتي والقواعدي، أمّا المفردات فإنّهم لا يرون أنّها مفيدة جداً في بناء اللغة؛ حيث يرون أنهم بحكم المسافرين الذين يسافرون إلى مدينة ما ويمكثون فيها قليلاً ثمّ يتركونها، فالمدينة بمجرّد أن يغادرها هؤلاء المسافرون، لا تلبث أن تعود وتمضي في حياتها السابقة.اللغة هي الوسيلة الأصلية لانتقال العلم والمعرفة والتجارب وسوق التعليم والتعلُّم لآلاف السنين في الحياة البشرية.العلوم والتجارب البشرية انتقلت عن طريق الأذن، وأساساً إنّ تاريخ العلم وتوارث العلم البشري مرتبط بقوّة هذه الحاسة وقدرتها.التاريخ يحكي عن عازفين ومغنّين وشعراء وكتّاب كبار كانوا كفيفي العيون، ولكنّهم استطاعوا بنور قلوبهم واستعمال الأصوات والكلام أن يبنوا عماراتٍ خالدة من الأدب والعبارات الجميلة وسائرالعلوم، أمثال بشار بن برد وأبي العلاء المعري وشوريده الشيرازي وطه حسين، وعدد كبير من القرّاء المعاصرين المصريين أمثال محمد رفعت ومحمد عبد العزيز حصّان ومحمد عمران وسعيد مسلّم وعلي محمود ومحمد عكاشة ومحمد ساعي نصر الجزراوي ومحمود محمد رمضان، وكانوا بشهادة كبار أصحاب الرأي من نوابغ الفن والأدب وقد استفادوا بصورة واضحة وملموسة من قدراتهم السماعية والصوتية.وسأقف هنا لذكر القرّاء المصريين متنوري القلب، فأذكر مثلاً علي محمود (1878-1946م)، وهو قارئ مصري مستنير القلب مكفوف البصر، فالعديد من المعزوفات والألحان التي كان محمد عبد الوهاب قد ألّفها في القرن الأخير مبنية على نظرية الأستاذ الشيخ علي محمود، وكان محمد عبد الوهاب قبل أن يبثّ هذه الألحان والأغاني في راديو القاهرة كان يعرضها على الأستاذ علي محمود.يمكن أن نذكر أيضاً صوت القارئ الكبير محمد رفعت (1882-1950م) الذي كان يقرأ القرآن بصوت عظيم حتى لا ترى لصوته سكوناً في مجالسه، ولهذا، فقد لقّبه قرّاء القرآن في زمانه وحتى الموسيقيين المشهورين في زمانه بقيثارة السماء.محمد عبد العزيز حصّان (1928-2003م) بسبب تنوّع أنغامه وإيقاعه الموسيقي الناعم والتغييرات التدريجية والدائمة في ألحانه، لم يستطع أحدٌ حتى الآن أن يقلّد تلاواته، حتى قيل أنّه نفسه لم يستطع أن يقلّد تلاوته، وفي جميع تلاواته لا يمكن أن تجد تلاوةً تشبه الأخرى، ولهذا لُقِبَتْ طريقته بـ (الطريقة الحصّانية).ومن بين جميع الأشخاص الذين كانوا يتمتّعون ببصر قوي ولكنّهم محرومون من نعمة السمع لا يمكن أن تجد شخصاً كالذين ذكرناهم أبداً.لغة وصوت القرآنحاسة السمع هي أكثر الحواس تجرّداً ولها القدرة على النفوذ إلى الأعماق الداخلية للنفس الإنسانية من خلال قانون بسيط جداً، وهو أنّ الأذن هي باب القلب، والقلب هو فم الروح.الأذن والسمع من الحواس التي تتمتّع بقدرات وميزات لا تتمتّع بها بقية الحواس على الإطلاق، لذلك ففي دراسة موسيقى أيّ لغة نجد أنّ مقولة السمع هي الأكثر أهمية دائماً.ملاحظات حول حاسة السمعتوجد مجموعة نقاط أخرى حول حاسة السمع لابد أن نلاحظها، هي:1- إنّ بناء وطريقة عمل حاسة السمع هي على العكس من حاسة البصر، فبغض النظر عن الجوانب العصبية والالكتروماتيكية المبنية على جهاز ميكانيكي منظم ودقيق جداً، فالسمع هو معلول الحركة، وما لم توجد حركة فلن يوجد هناك سمع للصوت الناتج عن أثر الحركة والتواتر في الأمواج الهوائية التي تنتقل إلى الصملاخ، ومن ثمّ إلى عظام المطرقة الموجودة في الأذن الوسطى التي تضرب أو تنقر على السندان، ومن ثمّ إلى العصب السمعي، ومن ثمّ إلى العقل، وتكمل طريقها إلى روح الإنسان.إنّ عملية السمع هي عملية حيّة وتترك أثراً أكثر بقاءً بالقياس مع عملية الرؤية مثلاً.2- السمع يمكن أن يخلق رؤية معيّنة، فالموسيقي يستطيع ـ بتركيب مجموعة من الألحان ـ أن يجلعنا نحسّ بواقعة ما ونرى أحداثها التصويرية بنفس الطريقة التي تخدم فيها حاسة البصر حاسة السمع إلى حدٍّ معيّن. على سبيل المثال: الأمواج النورية البصرية تمكّننا أن نستخرج أو نحسّ إيقاعاً موسيقياً لمنظر ما، ولكن الصوت له قدرة أكبر على خلق المناظر البصرية من الحالة السابقة.3- بالنظر إلى موضوع موسيقى اللغة، يجب أن نلفت الانتباه إلى هذه الملاحظة المهمّة وهي إنّ فهم الإنسان للموسيقى يزداد بواسطة حاسّة السمع.ومن البديهي أنّ الجانب الصوتي في موضوع موسيقى اللغة له أهمّية كبرى، والتعلُّم الصوتي هو أساس الفعاليات الموسيقية ومفتاح التكامل الارتباطي السمعي.بالمحصّلة نقول: إنّ الموسيقى يجب أن تُسمع فقط، وهذا القول ليس محيّراً أو مبتدعاً، وهذه هي نقطة قوّة الموسيقى، ومن هنا يمكن أن نفهم الجوانب والأبعاد الأخرى للموسيقى.لحن اللغة وموسيقاهاإنّ موسيقى أيّ لغة ـ بغضّ النظر عن مفاهيمها وألفاظها ـ هي الباب لأذن وقلب الإنسان وهي في الطليعة، فهي أوّل ما يصل لقلب وأذن الإنسان، فالموسيقى هي اللغة الوحيدة التي يمكن إدراكها من قبل الجميع، وبنفس الوقت لا يمكن لشخصين أن يترجماها ذات الترجمة.أوّل ما يتلقاه الأنسان عن لغة ما كما يذكر في مباحث علوم اللغة، هو موسيقى هذه اللغة ولحنها وطريقة وقعها وإيقاعها، وهو أمر مهم جدّاً.الجانب الصوتي في لغة القرآن الكريمممّا لا شكّ فيه أنّ آيات القرآن هي آخر الآيات الخالدة والمصونة المتبقية من سلسلة الأنبياء التي بقيت كلغة صوتية وكلامية، وهذا ما لا نجده في بقية الكتب السماوية الأخرى.ولو نظرنا إلى الصوت من جانب تجريدي فيمكننا اعتباره كمفهوم تجريدي، ونسبة تجرّد هذا الصوت كامنة في أنّ حاسة السمع هي أوّل ما يعمل عند الإنسان قياساً مع بقية الحواس، فالقرآن الكريم لغة الله الخاصّة التي نُزِّلت إلى الأرض بما يتطابق مع الأعراف المرتبطة بالإنسانية، حيث إنّ هذا القرآن الكريم تنزَّل بقالب الألفاظ التي هي وسيلة التكلّم لجميع البشر، فهم يستطيعون قراءتها وتبديلها إلى أمواج يمكن للجميع الاستماع إليها.لذا، فأنا أعتقد أنّ أكثر فنون القرآن الكريم أصالة هو فنّ القراءة والكتابة والتفسير، وفي هذا الصدد فإنّ قراءة القرآن قياساً مع كتابته هي علامة واضحة وقريبة أكثر لأصل القرآن الكريم.كلمة (قرآن) مأخوذة من كلمة (قرأ)، وبالنظر إليه من جميع الجوانب الصوتية والسماعية، نجد تلاؤماً وتجانساً كبيراً بين السماع والقلب وبين الكلام والبصر، وهذا ما يُنظَر إليه في العالم الآن بعنوان فن، ومن هنا يمكننا القول أنّ الصوت هو منشأ الفنّ البَصَري أيضاً.أكّدَ القرآن الكريم مرّاتٍ عدّة على حقيقة أخرى وهي ارتباط مقولة السمع بمقولة القلب والعقل، في هذه المقالة سوف نتكلّم عن الأبعاد الأخرى لمقولات صوت القرآن والاستماع في القرآن.القرآن الكريم له موقع أساس في الجانب الصوتي للغة، سواءً في أمر التعلّم أو التعليم، حيث كان تعليم القرآن ولأسباب مفصّلة ومختلفة، مبدوءاً بكلمة (اقرأ)، وحتى آخر حلقة في سلسلة التعليم هذه يجب أن نواظب ونمضي في طريق السمع والإصغاء، فلا شكّ إنّ شمولية القرآن السمعية والقرائية ستكون أكثر بقاءً من شموليته البصرية.التدبّر في القرآن الكريم مبني على الترابط بين الألفاظ والمعاني في الآيات، دقيقاً كما تعتمد الذاكرة على السمع أكثر من البصر. يسعى الإنسان في أغلب الأحيان حين يحاول أن يفهم موضوعاً علمياً بطريقة بصرية أن يمليه على نفسه ويحفظه بطريقة مسموعة، وحين يحاول أن يتذكّره يسعى لأن يعيد تذكّر صوته ويعيد إيجاده في ذهنه. على سبيل المثال: عندما يحاول شخص أن يتذكّر عنواناً أو رقماً في دفتره، فإنّه لا يتذكّر صورة الحروف أو الأرقام في ذهنه.إنّ إدراك الموسيقى الخاصّة بالقرآن بحاجة إلى الممارسة والانتباه إلى ملكة السمع وتقوية الاستماع إلى القرآن الكريم. في قراءة القرآن الكريم، قبل أن تكون القراءة مهمّة يجب أن نسعى إلى تعويد الأذن على أهمّية الاستماع، الكثير منّا عند القراءة لا يستمع إلى صوته، في حال أنّه ورد عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّهم قالوا: >لا يكتب من القراءة والدعاء إلا ما أسمع نفسه<. [وسائل الشيعة (آل البيت): ج6/ ص96].وكان من دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) لله تعالى إذا أخذ مصحف القرآن: >... ولا تطبع عند قراءتي كتابك على قلبي ولا على سمعي< [إقبال الأعمال: ج1، ص232].وعن ابن عباس أنّه قال لرجل سريع القراءة: >فاقرأه قراءة تُسمع أذنيك ويعيه قلبك< [شعب الإيمان: ج2، ص392].الاستماع إلى القرآن في سيرة النبي وأهل بيته (ع)لقد بيّنت السيرة النبوية أهمية تلاوة القرآن في الصلوات والخطب والخطابات والاستدلال بآيات الوحي، وهي طريقة مهمة لإيصال وتفهيم المطلوب.لقد كان أصحاب النبي في حالة شوق دائم ليسمعوا تلاوة الرسول المليئة بالخشوع والإيمان في جميع المواقع السابقة، وكانوا يتعلّمون الآيات الإلهية بكثرة الاستماع، هذا الموضوع كان محدوداً في مكة، ولكنّه كان في المدينة من البرامج اليومية وأحد الطرق المهمة في رواج القرآن الكريم.حتى الصيغ المختلفة لكمات، مثل: (القراءة)، (إقراء) و( استقراء)، (استماع) و(سماع) وغيرها، نجدها بوفرة في روايات متشابهة. هذه الروايات كانت موجودة حتى عندما كان المسلمون قادرون على القراءة والكتابة، وكانوا يستطيعون بسهولة أن يستفيدوا من الطريقة البصرية والكتابية لتعليم القرآن، لذلك لا يمكن القول إنّ المسلمين بذلك الوقت كانوا مجبورين على اعتماد الطريقة السمعية لتعليم القرآن، ولا يمكن القول أنّ الطرق المذكورة قد فقدت اعتبارها وأهميّتها في القرون التي تلت تلك الحقبة، ولكن على العكس، فطرق التعليم هذه بقيت مستعملة حتى منتصف القرن الرابع عشر قمري في أغلب البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا، وأثبتت جدارتها وفعاليّتها.مع بداية القرن العشرين الميلادي، تمّ اقتباس طرق التعليم الغربية بصورة ناقصة وغير صحيحة؛ حيث إنّ هذه الطرق لم تكن وسيلة صحيحة لتعليم القرآن، وأصاب الضعف والخلل نُظم التعليم في بعض البلاد الإسلامية، والتي ما زال أثرها السلبي موجوداً حتى وقتنا الحاضر.صوت القرآن وتأثيراته على روح وجسم الإنسانيتحدّث القرآن الكريم عن موضوع مهم وهو سلوك القرآن، فيقول: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [سورة الشعراء: 200-201]، {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الحجر: 12-13].سلوك بمعنى الدخول والعبور من شيء ما، وقد استعمل القرآن الكريم هذا المفهوم لوصف الحركة المباركة لنحلة العسل فقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [سورة النحل: 68-69].القرآن الكريم أيضاً يسلك في طرقات البدن بسهولة، هذه الطرق تشمل المنافذ الظاهرية للأذن وأعضاء الجسم حتى الطرق المخفية في أعماق وزوايا الروح.من الآثار المهمة لسلوك القرآن في جسم وروح الإنسان نيل الطمأنينة وراحة القلب. بيان جانبي لتأثير هذا السلوك يتلخص في هذه الآية: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 23].تحدّثت هذه الآية عن نفوذ لحن القرآن إلى قلب الإنسان عن طريق أعضاء الجسم المختلفة مثل الجلد، وتأثيره المباشر الحسي والحركي على الأنسان.استطاع العلماء اليوم بعد تحقيقات ودراسات طويلة، فهم دور الجلد وأهميّته في انتقال الأصوات إلى داخل جسم الإنسان وروحه.تستطيع روح الإنسان عن طريق السمع، أن تكتسب لوناً وتأثيراً واضحين، وهذا التأثير واللّون يمكن أن يكون هو نفسه الصبغة الإلهية التي تحدّث عنها القرآن قائلاً: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [سورة البقرة: 138].هذه الصبغة تتحقّق عن طريق سماع القرآن وسلوكه في جسم الإنسان وروحه. اللّون والتأثير الذي يصبغه القرآن على جسم وروح الإنسان هو نفس الشيء الذي ورد في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): ((من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه)) [الكافي: ج2/ ص603]. يتلخّص هذا الحديث في ثلاثة عناصر هي: القراءة والشباب والإيمان، وهي أساس اختلاط القرآن بلحم ودم الإنسان.وبتعبير آخر: إنّ الحالة التي سوف يصل إليها حامل وقارئ القرآن هي أنّه لن يستطيع أن يفارق القرآن أبداً، تماماً كما لو قطع أو فصل قطعة لحم من جسده، فسيكون الأمر مستحيلاً، إلا حينما تفارق روحه جسده.بالأخذ بعين الاعتبار ما سلف في الأقسام السابقة عن ارتباط حاسة السمع بالقلب والجسم، وأيضاً تأثير صوت ولحن القرآن الكريم على نفس الإنسان والطرق الداخلية، سواء الظاهرة منها أو الغير ظاهرة، فسيكون وضع العنوان الحاضر أسهل بكثير.اليوم يسعى المتخصّصون بواسطة أجهزة متخصّصة إلى إعادة إحياء النغمات من قيثارة فخارة مكسورة، حيث كان صانعو الفخار في القرون السابقة يعزفون ألحانهم عليها.يجب أن لا نتعجّب من أنّ كلام الله ونداء الحق يؤثّر على لحم وجلد الشاب المؤمن، وأنّ هذه الموسيقى السماوية تجد طريقاً لها إلى جسمه وروحه لتروح وتجيء فيه، وإن خلا هذا الطريق من تلك الموسيقى، فإنّه يحس بنقص كبير في جسده وبفراغ في روحه.في السنوات الماضية انتشرت مقالة بعنوان (شهادة الماء)، وهي تحكي عن تأثّر جزيئات الماء بالتأثيرات السلبية أو الإيجابية الموجودة في المحيط من حولها، وهذا ما قد أعلنه محقّق ياباني بعد دراسات وتجارب عدّة، وقد أيّدته مؤسَّسات علمية وفيزيائية وبيولوجية عديدة في العالم.حتى في مراكز الأبحاث في الجمهورية الإسلامية الايرانية أُجريت تجارب شبيهة بتجارب العالم الياباني، وقد حازت على المرتبة الأولى في مهرجان الخوارزمي للعلوم، حيث تمّ في هذه التجارب إثبات أنّ ذرّات الماء حين تكون في الحالة السائلة وتتعرّض لصوت جميل مُحبَّب إلى القلب أو إلى موسيقى هادئة أو حتى كلمات وعبارات ذات مفاهيم جيّدة، فإنّها تصطف بطريقة منظَّمة، وعندما تتعرّض لصوت قوي ومزعج أو موسيقى عالية، فإنّها تصطف بطريقة غير منظَّمة وعشوائية، وعندما تعرّضت للصوت الذهبي (صوت القرآن الكريم) أو وُضعت إلى جانب كلمات القرآن الكريم، فإنّها اصطفت بطريقة منظَّمة أكثر من بقية الحالات السابقة.صوت وموسيقى القرآنكلام الذات الإلهية ليس مستثنى من القاعدة المهمّة السابقة، ويستطيع أيّ شخص من أي عرق أو لون أو لغة كان أن يحسّ ويشعر بموسيقى هذا الكلام، تماماً كما أشار الكاتب المصري (مصطفى محمود) إلى هذا الموضوع عندما تحدّث عن الوليد بن المغيرة قائلاً:في الجاهلية ليس عجيباً أبداً أن نجد الوليد بن المغيرة الذي عاش ومات على الكفر أنه لم يستطع أن يخفيَ إعجابه بالقرآن الكريم على الرغم من الكفر الذي كان متأصلاً فيه وقال عنه ـ على الرغم من أنه كان يقول عنه أنه كلام محمد ـ فوالله أن كلامه عذب وله حلاوة وجمال تفيض من كلماته عباراته مثمرة وكلها بركة وعطاء وكلامه له علوّ لايعلوه أي شيء آخر أبداً.وعندما طلبوا منه أن يسبّ الرسول (ص) قال: قولوا أنه ساحر كتب كلاماً عجيباً لتصبوا الخلاف وتبذروا التفرقة بينه وبين أهله وأعوانه وأقربائه، نعم القرآن سحر حتى بنظر الشخص الذي كان يبحث عن أي كلام يسبُّ فيه محمد.يصف (مصطفى محمود) الإحساس الذي أحس فيه عندما سمع القرآن لأوّل مرّة فقال:أول احتكاك لي مع القرآن كان في الرابعة من عمري عندما كنت طفلاً يجلس مثل زملائه في صفٍ من صفوف المكتبة العامة وينظر إلى اللوح والعصا التي كانت في يد الشيخ ويقرأ {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}، ونحن نردّد بعده: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} بدون أن نعرف ما هو الضحى؟ أو كيف يسجي الضحى؟ لكن فقط نكرر مقاطع ومخارج الحروف بهذه الطريقة تعلمت أولى عبارات القرآن الكريم وبذهن خالٍ تماماً ومن غير أي تأثير مسبق.إني أتحير تماماً في وصف أحساسي لدى سماعي أولى عبارات القرآن الكريم ولكن في الآيات التي فيها تحذير من العقوبة والعقاب ونسمع صوت معلمنا يقول اسمعوا ماذا يقول الله عن قوم عاد: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}.في كل هذه الآيات تسمع صوت الريح تضرب الخيام وجذور النخل التي سوف تخرج من مكانها وتصوير الأرض التي تعصف بهم.لا يمكن لأي إنسان أن يجد كلمات بهذه الليونة ليشرح فيها هكذا قصة معقدة. وكيف كانت الكلمات من تلقاء نفسها تدري طريقها وتأتي إلي سمعي وذاكرتي وفي وحدة نفسي أسمع صدى هذه العبارات {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}، كانت تهاجم سكوت طفولتي عبارات القرآن الكريم وأُعيد في ظلام الليل صوت شيخنا وإلقاؤه {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}.هذه العبارة التي كانت بدل أن يسعى الرجل إلى قومه، كانت تسعى إلى ذهني أنا كأن لهذه العبارة حياة مستقلّة أو هي مخلوق مستقل بذاته.بدون شك، أنا لم أكن أعرف ماهو الضحى؟ أو كيف كان الليل يسجي؟ أو من هو ذلك الرجل الذي كان يسعى إلى قومه من أقصاء المدينة؟لربما كانت هذه المقاطع التي تتردّد في أذني أشبه ما تكون بالمقاطع الموسيقية (دو- ري-مي –فا-صول-لا- سي) حروف مجرّدة وخالية من أي معنى ما عدا اللّحن الموسيقي الخاص بها، هذه النغمات الموسيقية الصرفة التي كانت تطرب الوجدان.يُشير (سيد قطب) إلى خاصية موسيقى كلام القرآن الكريم وتأثيرها في بدايات نزوله على تفكير العرب في ذلك الوقت، قائلاً:إنّ السبب الرئيس لغلبة وسيطرة النظام التشريعي في القرآن الكريم هو أنّه صالح لكل زمان ومكان أو الأخبار الغيبية التي أخبرنا بها وتحقّقت في السنوات القادمة، وأيضاً العلوم الطبيعية التي تحدّثت عن خلق الإنسان والعالم كلّها وردت في القرآن الكريم.وبالإضافة إلى هذه الميزات التي يقبلها في القرآن الكريم يقول:جميع هذه الموارد ظهرت في بداية نزول القرآن الكريم، أمّا ماذا يمكن القول عن عدد من الآيات القليلة والتي منذ بداية نزولها سحرت العرب بها وفي نفس الوقت ـ وغير الإشارة الخفيفة التي كانت في بداية سورة العلق عن خلقة الإنسان ـ لم يكن فيها قانوناً محكماً أو أثراً واضحاً عن العلوم الطبيعية والأخبار الغيبية.كانت لموسيقى الوحي في القرآن الأثر الأوّل والأهمّ في تلقّي القرآن الكريم من قبل متعلّميه، ويمكن أن نجمع عدداً كبيراً من قبيل هذه الخاطرات. ومن وجهة نظر الفن إنّ الطريقة العلمية والدقيقة والصحيحة لتعليم القرآن يمكن تهيئتها بتدقيق ما سبق.إدراك الموسيقى القرآنية التي ذكرها (مصطفى محمود) و (سيد قطب) وغيرهما سواء عن القرآن أو أيّ نصٍ آخر، ممكنة بالممارسة الطويلة مع الذوق الرفيع والاستنباط، وليس هناك شكٌّ أنّ هذه الميزة عندما نتكلّم عن القرآن الكريم يمكن أن ندركها من الوهلة الأولى ومن المرة الأولى لقراءتنا للقرآن الكريم.ميزان نقاء لغة ما وقوّة موسيقاهاواحدة من الجوانب المهمة جداً في موضوع صوت القرآن الكريم والتي لا تزال من الموضوعات غير المطروقة هي الموسيقى الخاصة والنقية للغة القرآن الكريم. وفي توضيح هذا الجانب يمكن القول: إنّ تغيير اللغة على مرّ العصور هو أمر مشهود ولا يمكن الفرار منه. التغيير التدريجي للغات يتمّ تحت تأثير بنائها الداخلي وعن طريق احتكاكها وتصادمها مع اللغات الأخرى.الموسيقى أيضاً بما فيها من وسائل وأدوات مثل اللغات الأخرى، خاضعة لهذا التغيير التابع للتغيّرات المختلفة للحضارة، وفي نفس الوقت مرور الزمان والتطوّرات الحاصلة في نسيجها، وفهم الموسيقى أيضاً مربوط بالعوامل المختلفة الموجودة في ذلك المجتمع.(السير ادوارد) يعتبر هذا الفن ـ مثل الرنسانس والباروك والكلاسيكية والرومانتيكية ـ في حالة تغيير دائمة من حيث البناء والشكل، وأنّ التصوّر الذي كان سائداً بأنّ الموسيقى هي أكثر الفنون استقلالاً ونقاءً هو تصور خاطئ تماماً وعارٍ عن الصحة.أشار العديد من النحويين واللغوين إلى أنّ الطبيعة لها دور وموقع أساسي بعنوان منشأ للّغة ولا يوجد أي خلاف على ذلك، ولكن ما هو محل الخلاف هو ميزان تأثيرها على اللغة، أمّا في موضوع الموسيقى فمدى تأثيرها على اللغة هو من الأمور المسلّمة.فقد أخذ البشر الإلهام الأكبر والتأثير الأكبر من الموسيقى، فالأصوات المختلفة والمتنوّعة الموجودة في الطبيعة كانت سبباً لرفع مستوى وعي الإنسان بالنسبة لمعرفة الأصوات وأثرها والاستفادة العُظمى منها.عندما يسمع الفرد موسيقى لغةٍ ما، فإنّ ما يحدّد جمالها هو مقايسة الفرد لها مع معيار الجمال الطبيعي الموجود داخله والذي هو أساساً مبني على فطرة الإنسان في تمييز أنواع الجمال.إذا كانت هذه الموسيقى هي موسيقى القرآن، فإنّها سوف تكون في طليعة مستودع كنوز موسيقى اللغات جميعها وسوف تكون محفوظة من شوائب المحيط وغيرها.نقاء موسيقى القرآنبالتدقيق في كل ما سبق يمكن القول: إنّ الموسيقى في تاريخ البشرية ليست مؤثّرة فقط وإنّما هي قابلة للتأثّر، حيث تتأثّر بالمحيط والثقافة والتقدّم العلمي وحتى بالنبوغ الفكري للفرد.موسيقى اللغة أيضاً ليست مستثناة من ذلك، فاللغة بسبب الدقّة الموجودة فيها يمكن أن تغيّر الزمان وهي أيضاً ـ مع مرور الزمان ـ يمكن أن تتغيّر مفرداتها أو لحن هجائها.كل كلمة تتغيّر حركتها صوتها طريقة هجائها بشكل بطيء وهادئ، كأنّ هناك قوى غير مرئية تبعث الحياة فيها بشكل دائم.ليس غامضاً أنّ ما ذكرناه سابقاً له جهة معيَّنة وواضحة؛ حيث إنّ سرعته متغيّرة ومربوطة بشروط المحيط، وتفسيرها ليس صعباً؛ لأنّ لغة الإنسان قبل أي شيء لها ماهية صوتية، والأجزاء الصوتية والعلامات التي يستعملها الإنسان لها صبغة نفسية أيضاً واستعمال هذه العلامات له قالب وبناء ـ ليس شرطاً بالمعنى السلبي ـ ملوّث بلون وصبغة النفس البشرية التي هي أيضاً تتأثّر بالعديد من العوامل الأخرى.الموسيقى هي أيضاً فنّ مأخوذ من عمق النفس والطبيعة البشرية، وتماماً كما تخلق الثقافات المختلفة لغات مختلفة تخلق موسيقى متنوّعة أيضاً.دراسة بعض الأمثلة الإقليمية يمكن أن توضّح تأثّر لحن الكلام بالمحيط الذي حوله، في هذا المجال يمكن الإشارة إلى أمثلة عديدة من شبه الجزيرة العربية في جنوب آسيا القديمة في القرون التي سبقت الإسلام، أو ألمانيا في القرن العشرين غرب أوروبا.كل شخص يمكن أن يكون له لحنه الخاص، ومعرفة هذا اللحن ودراسته يمكن أن يقدّم مساعدة كبيرة في فهم طريقة كلام وشخصية ذلك الشخص، تماماً كما يمكن لكل موسيقي أن يكون له لحنه الخاص في الموسيقى، حيث يعتقد بعض أساتذة الموسيقى أنّه يمكن أن تُعزَف قطعة موسيقية واحدة ببناء معيَّن من قبل موسيقيَّين اثنين على آلة معيَّنة ونستطيع التمييز بينهما، وحتى لو عزفا مقطوعات جديدة على نفس الآلة فإنّه يمكن تمييزهما عن بعضمها البعض أيضاً.إنّ هذه الموسيقى النقية الناتجة عن حروفٍ ثابتة ومصانة بالإضافة إلى المفردات العربية المحافظ عليها في (ما بين الدفتين) حافظت على النطق العربي الفصيح. إنّ سنة تلاوة القرآن الكريم بصورة سماعية وجيل بعد جيل حافظت على النطق العربي الفصيح حتى أصبح ميراثاً خالداً وقيمة معنوية مهمة على مرّ الأجيال.هذه الهِبة التي لم تكن من نصيب أقوام أخرى، جعلت اللغة العربية على الرغم من جميع الأضرار التي لحقت بها على مرّ العصور وحتى تبدلّها إلى لهجات غير مفهومة تبقى حيّة إلى وقتنا هذا.ولهذا، انطلاقاً من هذه الحيثية فإنّنا يمكن أن نعتبر لغة القرآن لغةً كاملةً جعلها الله تحت تصرّف الإنسان، وضمن صونها وحفظها من أيّ تأثيرات خارجية.إنّ هذا الثبات والبقاء لم يكن للغة القرآن الكريم فقط، وإنّما هو شامل لجميع جوانبها ومؤلّفاتها بما فيها موسيقى تلك اللغة، وهو ما نجده موضوعاً مهمّاً وباعثاً للتأمّل.إنّ صوت القرآن الكريم ممزوج بلحنه وموسيقاه الخاصّين، وإنّ الاستماع إلى صوت ولحن القرآن الكريم ليس استماعاً عادياً وإنّما هو طبقاً لحديث الإمام الصادق (عليه السلام)، مسبوق بسابقة ومصبوغ بصبغة الإيمان بالقرآن الكريم ومُرسلِه، ومن الناحية النفسية والباطنية سيكون له مكانه المتعالي وسيلعب دوره الإيجابي والمعنوي والمثمر لنا من دون شك، وهذا ما تؤكّده التجارب اليومية المنقطعة النظير.الخاتمةاللغة لها ماهية وأصالة صوتية، وهذه الماهية لها أبعاد مختلفة مخفية، حيث يجب أن تكون تلك الأبعاد مدّ نظرنا للتعامل الصحيح مع كلام الله سبحانه وتعالى. هذا التعامل يبدأ من المراحل البسيطة لسماع القرآن الكريم حتى سماعه وتدبّره بدقّة وتعليم القرآن ومعرفته حتى دراسته ومطالعته بشكل منظم.وفي النهاية، إنّ هذا الجانب الصوتي في القرآن الكريم هو الذي يترك الأثر الخالد في جسم وروح الإنسان.كلمة قرآن مأخوذة من كلمة (قرأ)، وحضور وبقاء القرآن الكريم بغضّ النظر عن الدور الكتابي، فالجانب الصوتي كان له الدور الأكبر في بقائه على طول التاريخ.وبهذا الترتيب وبناءً على المشيئة الإلهية، بقي القرآن مصوناً من أيّ تغيير أو تحريف.القرآن لغة إلهية نقية ولها صوت وموسيقى نقية وخالصة أيضاً، ولهذا، فقد دخل القرآن مجال الدراسات العلمية والصوتية وقد تمّ سبر آثاره الموسيقية. وهذا الموضوع هو أعمق بكثير من المواضيع التي يسعى وراءها قرّاؤنا اليوم وهي تحميل نغمات موسيقية خارجة عن القرآن.واحدٌ من العيوب والسلبيات الموجودة اليوم في أمر تعليم وترويج القرآن في الأماكن العامة أو في أماكن تعليم وتعلّم القرآن بصورة جامعية وحوزوية هي عرض القرآن وتلقّيه بطريقة صامتة، في حين أنّ صوت القرآن هو أفضل مساعد؛ بل إنّه الرائد لتعليم وتعلّم القرآن الكريم.ليسوا قلّة أبداً طلاب العلم في فروع وكلّيات القرآن الكريم الذين لا يستطيعون قراءة القرآن بسهولة وليونة، وليس للآيات والعبارات القرآنية مفهوماً عندهم، والأسوأ من ذلك أنّ لسانهم ليس طليقاً بالآيات القرآنية.يجب علينا أن نعيد النظر في البرامج التعليمية الخاصة بهذا الفرع؛ بل وفي جميع الفروع الدينية المرتبطة الأخرى. فتعلّم القرآن وتعليمه يجب أن يكون مصحوباً بالممارسة الصوتية طوال سنوات الدراسة ويجب تجهيز جميع الحوزات والكلّيات الدينية المتخصّصة بتعليم القرآن الكريم بمخابر صوتية لاستماع وتلفّظ القرآن وإنشاء مراكز تضمّ الأساتذة الأكفّاء المبدعين، وتتوفّر فيها المكتبات الغنية بالملفّات الصوتية، بحيث يبدأ عملها بالتدرّج وبشكل سلسل بقياس أصوات الطلبة وامتحانها، وأن يكون لكلّ طالب ملف صوتي قرآني خاص به تُسجّل فيه جميع تلاواته وقدراته الصوتية في قراءة القرآن الكريم شرط أن تكون بعيدة عن التحميل أو التكلّف، وتُدرج في شهادته وهويته العلمية بعد انتهاء الدراسة.تماماً كما في أغلب البلاد الإسلامية، يستمع الناس بشكل يومي وبطور متوسّط إلى أكثر من ساعة لنداء الأذان وصوت القرآن قبل إقامة الصلاة وأثناء إقامتها من قبل أئمّة الجمعة والجماعات أو في خُطب الجمعة وغيرها، ويعتادون على ثقافة القرآن الصوتية ويصبح القرآن جزءاً من ذاكرتهم. أمّا في بلدنا فإنّ هذه الثقافة ضعيفة وراكدة، ولذا وجب علينا أن نهتمّ بها ونروّجها.إنّ صوت وموسيقى القرآن يفتح أبواباً مهمّة أخرى، منها: باب الإيقاع الموسيقي للقرآن الكريم، يعني: اختيار الألفاظ ومعانيها. وهذا ما سوف نتطرّق إليه في المقالة القادمة بالتفصيل إن شاء الله.