السيد فاضل الموسوي الجابري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[ال عمران : 33-34] .
الاصطفاء مفهوم قرآني تكرر في العديد من الآيات القرآنية من جملتها هذه الآية الكريمة .
وكقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾[ سورة الحج، الآية 75] .
وكقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾[سورة ص، الآية 46-47.] .
وفي آيات أخرى عديدة.. مثلاً عند الحديث عن نبي الله إبراهيم (ع): ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾[سورة البقرة، الآية 130.] .
وعن نبي الله موسى (ع) يقول تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾[سورة الأعراف، الآية 144.] .
وعن السيدة مريم بنت عمران عليهما السلام يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾[سورة آل عمران، الآية 42.] .
وعن طالوت أيـضاً يقول تعـالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾[سورة البقرة، الآية 247] .
وعن ورثة القران الكريم من هذه الامة قال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) [فاطر: 32] .
الاصطفاء، و الاختيار، و الاجتباء نظائر، و أصل الكلمة من الصفاء، و هو النقاوة من الدنس و الفساد، و الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال، مثل الاختيار، فيكون الاصطفاء هو أخذ الشيء صافيا من كلّ ما يكدّره و يختلط معه.
وهو يختلف باختلاف الجهات التي تكون سببا للصفاء، فقد يكون الاصطفاء من حيث الاختلاف مع الغير و الاندماج معه، فيكون بمعنى الاختيار للرسالة، كما في قوله تعالى في شأن موسى عليه السّلام: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: 144].
أو يكون الاصطفاء للملك و السلطة، كقوله تعالى في شأن طالوت: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 247].
أو يكون باعتبار الانتساب إلى التوحيد و نبذ الأوثان، قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [سورة فاطر، الآية: 32].
أو يكون الاصطفاء باعتبار صنف على آخر، كما في قوله تعالى: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ [سورة الصافات، الآية: 153].
أو من حيث التخلّص من الشرك و كونه جامعا للكمالات، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ [سورة البقرة، الآية: 132] .
و قد تكون جهة واحدة في الاصطفاء، و ربما تجتمع أكثر من جهة، كما في شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130]، فإن اختياره كان بسبب النبوّة و الملك و التقدّم في الإيمان و الدعوة إليه و الإخلاص للّه تعالى.
و في المقام الأنسب هو الاصطفاء للرسالة و الولاية و العبوديّة المحضة، التي هي أساس الكمالات الإنسانيّة، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: عَلَى الْعالَمِينَ، فلو كان الاصطفاء بمعنى الانتخاب منهم، لكان الأنسب أن يقول: (من العالمين)، فهو نوع اختيار لهم و تقديم على العالمين باعتبار أمر خاص فوق مقام النبوة و الصلاح لا يشاركهم غيرهم فيه، و هو العبوديّة و الزعامة و الإمامة على الناس .
والخلاصة : ان الاصطفاء مأخوذ من معنيين:
المعنى الأول: من الصفاء والصفو، ويعني الخلوص من الشوائب في مقابل الكدر، فيقال ماء صافٍ بمعنى خالص أو سماء صافية أي بدون غيوم.
هذا المعنى الأول من الصفاء والصفو يعني الخلوص في مقابل الكدر أو في مقابل التلوث. وهو يساوق معنى العصمة والطهارة .
المعنى الثاني: من الاصطفاء بمعنى الاختيار، مأخوذ من صفوة الشيء، يقال صَفوة صِفوة صُفوة بالحركات الثلاث، صفوة الشيء اختيار، وأخذ صفوة الشيء يقال له اصطفاء. ولا شك بان الانبياء والاوصياء والاولياء اختارهم الله من بين البشر لوجود الاستعدادات والمؤهلات الذاتية في شخصياتهم الشريفة .
وفي الاية الكريمة ذكر الله تعالى ان من وقع عليهم الاصطفاء شخصين ومجموعتين . اما الشخصان فهما ادم ونوحا , واما المجموعتان فهم آل ابراهيم و آل عمران .
والآل و الأهل سواء، إلا أن الأول يستعمل في خاصة الإنسان و الملحقين به، و من يؤول إليه أمره .
و المراد بآل إبراهيم و آل عمران هم خاصتهما و الملحقون بهما، فيختصّ ببعض الذرّية الطيبة الطاهرة لا جميعها.
أما آل إبراهيم فهم الطاهرون من آله، الطيبون من ذرّيته، لأن إبراهيم عليه السّلام أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله الخاص، كإسماعيل و إسحاق و يعقوب، و سائر الأنبياء من بني إسحاق، و سيدهم و أعلاهم قدرا و أنبّههم ذكرا محمد خاتم النبيّين، الذي هو المصطفى بالقول المطلق و مظهر لكمال الحقّ و آله الطاهرون الذين يؤول أمرهم إليه صلّى اللّه عليه و آله في الجهات التشريعيّة و الكمالات الإنسانيّة، و مكارم الأخلاق، و الملحقون به في الولاية، و يشهد لذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 68]، فإنه ظاهر في أن المناط في مفهوم الآل هو المتابعة في الاعتقاد و العمل، و بهذا الاعتبار يشمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته الطاهرين و الذين آمنوا به.
و أما آل عمران فهم من آل إبراهيم أيضا، و الظاهر أن المراد بهم هم ذرّية عمران أبي مريم أم عيسى، الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه السّلام أيضا من ناحية أمه.
إذا عرفت هذا واستوعبته جيداً , فإننا نريد أن نسأل هذا السؤال : لقد ذكر المؤرخون وأرباب المقاتل والسير بأن الإمام الحسين عليه السلام حينما أراد سيدنا علي الأكبر عليه السلام الخروج الى القتال والنزول الى ساحة الوغى لمقاتلة جيش يزيد وعبيد الله بن زياد , فإنه عليه السلام تأثر كثيراً وأخذ يدعوا على هؤلاء القوم ويقول : بأنه خرج اليهم أشبه الناس خَلقاً وخُلُقا ومنطقاً برسول الله , ثم تلا قوله تعالى : ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[ال عمران : 33-34] .
وما قام به سيد الشهداء مع ولده علي الأكبر لم يقم به مع أي شخص آخر من أهل بيته أو أصحابه , فلماذا كل هذا التفاعل , ولماذا استشهد بهذه الآية؟ هل ثمة ارتباط بين علي الأكبر والآية الكريمة ؟ أي هل أن علي الأكبر من المصطفين , وما نوع هذا الاصطفاء من المعنيين الأساسيين اللذين ذكرناهما ؟
الجواب :
أما ثبوتاً : فلابد لنا من التأكيد بأن الاصطفاء ليس خاصاً بالأنبياء والأوصياء ممن عصمهم الله تعالى بالعصمة الكاملة الذاتية وإنما يشمل الأولياء ممن وصلوا من خلال الاستعداد والسير والسلوك والاخلاص الى الله تعالى الى درجة التكامل . فلا مانع من كون الشخص من المصطفين الابرار بالمعنى الأول والثاني على حد سواء .
وأما اثباتا : بان الناظر الى شخصية سيدنا علي الاكبر عليه السلام وما قيل في حقه من احاديث وشهادات وزيارات سوف يجده من اولئك الذين اصطفاهم الله تعالى وطهرهم واختارهم ليكونوا من اوليائه .
فمضافا الى ما ذكرناه من كلام الامام الحسين عليه السلام في تلاوة الآية الكريمة عند ارادة خروجه للمعركة , فان قوله عليه السلام : خرج اليهم اشبه الناس خلقا وخلقا ومنطقا يشعر بذلك . لان ما يحمله رسول الله صلى الله عليه واله من خلق انما لأجل كونه قد حباه الله بالعصمة والطهارة والادب الرباني كما في الحديث المرفوع الى النبي : (ادبني ربي فاحسن تأديبي ) .
وكذلك فانه من دون شك فان سيدنا علي الاكبر داخل في آل ابراهيم المصطفين لأنه من ذرية ابراهيم عليه السلام , والا فلا معنى لتلاوة الآية الشريفة اذا لم يكن داخلا في مصاديقها , لان ذلك يستلزم لغوية الكلام والمعصوم منزه عن اللغوية لأنه مناف لعصمته .
وايضا فان شهادة سيد الشهداء بحق ولده بانه اشبه الناس منطقا برسول الله يدل على ذلك , فان منطقه الصدق والحق وهو ناتج عن كمال العقل وطهارة النفس وادراك الواقع وعدم تسرب الجهل والغفلة اليه بحال من الاحوال .
أضف إلى ذلك ما جاء في زيارته المخصوصة في أول رجب : [ السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّها الصِّدِّيقُ الطَيِّبُ الزَّكِيُّ الحَبِيبُ المُقَرَّبُ وَابْنَ رَيْحانَةِ رَسُولِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ مِنْ شَهِيدٍ مُحْتَسِبٍ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُه ، ما أَكْرَمَ مَقامَكَ وَأَشْرَفَ مُنْقَلَبَكَ ! أَشْهَدُ لَقَدْ شَكَرَ الله سَعْيَكَ وَأَجْزَلَ ثَوابَكَ وَأَلْحَقَكَ بِالذِّرْوَةِ العالِيَةِ حَيْثُ الشَّرَفُ كُلُّ الشَّرَفِ وَفِي الغُرَفِ السَّامِيَةِ ، كَما مَنَّ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ الَّذِينَ أَذْهَبَ الله عَنْهُمْ الرّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيراً ، صَلَواتُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ وَرِضْوانُهُ فَاشْفَعْ أَيُّها السَيِّدُ الطَّاهِرُ إلى رَبِّكَ فِي حَطِّ الاَثْقالِ عَنْ ظَهْري وَتَخْفِيفِها عَنِّي وَارْحَمْ ذُلِّي وَخُضُوعِي لَكَ وَلِلْسَيِّدِ أَبِيكَ صَلّى الله عَلَيْكُما ] .
وخلاصة الكلام : ان سيدنا علي الاكبر من غير شك يعتبر ممن اجتباهم الله واصفاهم وطهرهم . وليس بعيدا ان يكون من المعصومين بالعصمة الصغرى التي تسمى ايضا ( العصمة الاكتسابية ) وهي لا تلازم النبوة والامامة فيمكن شمولها لمطلق الاولياء .
ونفس الكلام ينطبق على سيدنا ابي الفضل العباس وسيدتنا زينب الكبرى سلام الله عليهما . وقد ذهب جمع من العلماء الى ذلك , وهو ليس ببعيد على من تربى في حجر اطهر واشرف الناس .
نسال الله تعالى ان يرزقنا شفاعتهم وان لا يفرق بيننا وبينهم طرفة عين ابدا .