لا يحتاج مصطلح (الغيب) ذلك الكدّ الذهني لمعرفة ماهيته، ولو استنطقنا المعجمات اللغوية على عجالة لقدَّمت لنا معناه البديهي فور سماع المصطلح، فالغَيْبُ: ((هو كلُّ مَا غَابَ عَنْكَ واستتر، وفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)؛ أَي يُؤْمِنُونَ بِمَا غابَ عَنْهُمْ، مِمَّا أَخبرهم بِهِ النبيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَآله، مِنْ أَمرِ البَعْثِ والجنةِ وَالنَّارِ. وكلُّ مَا غابَ عَنْهُمْ مِمَّا أَنبأَهم بِهِ، فَهُوَ غَيْبٌ؛ وقيل: الغَيْبُ أَيضًا مَا غابَ عَنِ العُيونِ، وإِن كَانَ مُحَصَّلًا فِي الْقُلُوبِ)) ([1]).
ولا يبعد الحد الاصطلاحي للغيب عن المعنى اللغوي - وحديثنا عن الغيب في دائرة البشر لا عن الله سبحانه فهو سبحانه لا يعزب عنه خافية في السماوات ولا في الأرض بقوله تعالى: ((عالم الغيب والشهادة)) ([2])- فهو ما ((يقابل الشهود، فما غاب عن حواسنا وخرج عن حدودها فهو غيب، سواء أكان أمرًا ماديًا كالحوادث الواقعة في غابر الزمان... أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه كذاته تعالى، وحقيقة البعث والنشور)) ([3])
وقد ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم مع بعض مشتقاته أربعًا وخمسين مرة، والسؤال المحوري هنا: هل الغيب مختص بالله سبحانه ولا يعدو غيره؟ أو هو مختص به -سبحانه- ويُطلِع على بعض منه سواه؟ والقول في ذلك: إنَّ العلم بالغيب على ضربين: (( أحدهما: هو مختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره، ولا يتجاوز إلى سواه، و ما جاء في القرآن الكريم من الإشارة إلى علم الغيب لا يراد منه إلا هذا، وعلى هذا الآية المباركة: (( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) ([4]) وقوله تعالى: (( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) ([5]). وثانيهما: ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه بمشيئته سبحانه))([6]) ولعلَّ في قوله تعالى إشارة إلى ذلك: (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ )) ([7]).
وكان الإمام علي عليه السلام يضمِّن خطبه بين الحين والآخر أمورًا غيبيَّة، والناس بذلك أصناف: فمنهم المتيقِّن من علم الإمام علي عليه السلام مطلقًا، فلا يناقش ما يقول، ولا يخاطر فكره أدنى شك فيما يُطرح من غيبيات، ومنهم المنكر، ومنهم الذي يستفهم كالرجل (الكلبيّ) الذي سأل الإمام عليه السلام إن كان يعلم الغيب؟، فبيَّن عليه السلام له مراتبه، ولنا أن نقف عند الخطبة التي كان يخبر بها عن الملاحم في البصرة، قال الإمام علي عليه السلام: ((يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُم، وَلاَ حَمْحَمَةُ خَيْل، يُثِيرُونَ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ. ثمّ قال (عليه السلام): وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَدُورِكُمُ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا.
كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْمًا كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ الْـمَجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل، حَتَّى يَمْشِيَ الْـمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورِ! فقال له بعض أصحابه: لقد أَعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب!
فضحك (عليه السلام)، وقال للرجل ـ وكان كلبيًا: يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الأرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقيّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَبًا، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقًا; فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلّا اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي)) ([8]).
الناظر إلى الآية المباركة يجدها قد ذكرت موضوعات الغيب الذي يختص به الله سبحانه، والآية المباركة جاءت بغرض البيان والتوضيح لاستفهام السائل- الكلبي- إن كان أمير المؤمنين يعلم الغيب، فأجابه ببيان واضح؛ إذ ذكر الإمام عليه السلام مراتب العلم بحسب صريح الخطبة، فالعلم الغيبي النسبي والمطلق عند الله سبحانه، وما شاء أن يطلعه سبحانه لمن يشاء من عباده وهو علم الإمام عليه السلام الذي وصفه بأنَّه تعلم من ذي علم أي من رسول الله صلى الله عليه وآله، من طريق النبي (صلى الله عليه وآله) عن الوحي. والغيب الذي أشار إليه الإمام عليه السلام في الآية المباركة هو:
هذه العلوم الغيبيَّة الخمسة التي وردت في الآية المباركة تحتمل في بيانها وجوهًا بحسب توجيه العلماء، منها ([9]):
الوجه الأوَّل: أن يكون المراد أن تلك الأمور لا يعلمها على التعيين والخصوص إلّا الله تعالى، فإنَّهم إذا أخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلًا، ويحتمل أن يكون ملك الموت أيضًا لا يعلم ذلك، إذ إنَّ ((علم الغيب علم ذاتي مختص بالله سبحانه وتعالى، لكن العلم الاكتسابي و الإعطائي لا يسمى بعلم الغيب، بل هو ذلك العلم الذي علّمه الله سبحانه نبيّه وعلّمه النبي من يراه مستعدًا لذلك العلم)) ([10])
الثاني: أن يكون العلم الحتمي بها مختصًّا به تعالى، وكل ما أخبر الله به من ذلك كان محتملًا للبداء.
الثالث: أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى بها إلّا من قبله، فيكون كسائر الغيوب، ويكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره.
الرابع: إنَّ الله تعالى لم يُطلع على تلك الأمور أحدًا من الخلق على وجه لا بداء فيه، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر أو أقرب من ذلك وهذا وجه قريب تدل عليه الأخبار الكثيرة؛ إذ لا بدَّ من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار، وكذا ملائكة السحاب والمطر بوقت نزول المطر، وكذا المدبرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث.
الخامس: ذكر الإمام عليه السلام لهذه العلوم التعليميَّة استثناءات وردت خمسة منها في الآية الشريفة موضع الاستشهاد، وهذه مصاديق علم الغيب التي لم يعلّمها الله سبحانه أحدًا من الخلق([11]).
وقد تميّز الشاهد القرآني في هذا المحل بوجوده المحوري؛ إذ تكفَّل بالإجابة عن سؤال الرجل، ولا أروع من توظيف القرآن الكريم في الإجابة وبيان ملتبسات الأمور؛ إذ يصبح القرآن الكريم في مواقف مفَسِّرًا لا مفَسَّرًا. ووجه التشابه بين موضوع الخطبة والآية القرآنية هو:
1- جاءت الآية المباركة ردًّا على منكري الإشارات الغيبية التي منها: البعث، والنشور، والساعة، إذ ((كَانَ مِنْ جُمْلَةِ غَرُورِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ عَدَمَ إِعْلَامِ النَّاسِ بِتَعْيِينِ وَقْتِهِ أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ)).
وقد بينت آيات قرآنية أسلوب إنكارهم ومنها قَوله تَعَالَى: ((وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)) ([12])، وَقَالَ عزّ من قائل: ((وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها)) ([13])، فَلَمَّا جَرَى فِي الْآيَاتِ قَبْلَهَا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أُعْقِبَتْ بِأَنَّ (وَقْتَ السَّاعَةِ) لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ([14]).
وعلى ذلك جاءت الخطبة المباركة؛ إذ تكلم بها الإمام عليه السلام عقب معركة الجمل، ولا يخفى الواقع البئيس الذي اضطلع به اتباع الجمل فلزم أن يبث في صفوف المجتمع شيئًا من الغيبيات الحتميَّة، ولعل الفائدة فيها أمور، نذكر منها:
أ- تمثل هذه الأخبار الغيبية بلسمًا لصلاح المجتمع وتثقيفه بتلك الثقافة التي تجعل الفرد منهم على وعي بما سيحيق بالأمة من خطر، وهذا يستلزم توحيد الكلمة والالتفاف حول أولي الأمر استعدادًا لتلك المخاطر التي لا توفِّر الصغير قبل الكبير، ولا المرأة قبل الرجل.
ب- يمكن أن يفهم منها التوبيخ والتقريع لمن وقف ضد الإمام علي عليه السلام وحاربه في الجمل؛ إذ يفرز الخطاب مضمرات قولية مفادها أنكم تقاتلون وارث علم خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله.
ت- بالمقابل يمكن أن تكون دافعًا معنويًا يؤجج روح النصرة والمساندة لأصحاب الإمام عليه السلام؛ فهم يقاتلون إلى جنب وارث علوم رسول الله صلى الله عليه وآله.
وبذلك ينجلي التقارب بين المخاطبين في الآية المباركة أو سياقها، والخطبة المباركة.
2- أخبر عليه السلام بتلك الأخبار الغيبية بعد سؤال الرجل الكلبي له، فبين مستويات العلم الغيبي، كذلك ينبئ سياق الآية المباركة بأنها إجابة لسؤال مضمر يظهره السياق فجُمْلَةُ (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ((مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِوُقُوعِهَا جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فِي نُفُوسِ النَّاسِ. وَالْجُمَلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي بَعْدَهَا إِدْمَاجٌ لِجَمْعِ نَظَائِرِهَا تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ)) ([15]).
ومن هذه الوقفة المتواضعة مع التعانق السياقي والموضوعي بين الآية المباركة والخطبة تظهر دقة الاستشهاد وجمال الصياغة وروعة السبك.
([1]) ينظر: كتاب العين:1/ 374، ولسان العرب: 1/ 654.
([2]) سورة الأنعام: 73.
([3]) مفاهيم القرآن، تأليف العلامة جعفر السبحاني، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان: 3/ 350.
([4]) سورة الأنعام: 59.
([5]) سورة النمل: 65.
([6]) مفاهيم القرآن: 3/ 400.
([7]) سورة آل عمران: 179.
([8]) نهج البلاغة، تحقيق: د. صبحي الصالح: 186.
([9]) ينظر: بحار الأنوار: 36/ 103- 104.
([10]) ينظر: نفحات الولاية: 5/ 236.
([11]) نفحات الولاية: 5/ 237.
([12]) سورة يونس: 48.
([13]) سورة الشورى: 17- 18.
([14]) ينظر: التحرير والتنوير:21/ 196.
([15]) التحرير والتنوير: 21/ 196.