يُعد القرآن الكريم الأصل الأول في التشريع وعليه يقع المدار في التأسيس للأحكام الشرعية ، ثمَّ تأتي بالتبع بعد ذلك الأصول الأخرى من السُّنَّة والعقل والإجماع ، وما دمنا في التأسيس لعقيدة الرجعة فإنَّنا سنعتمد الأصل القرآني بوصفه النَّصّ الأعلى في التشريع، وعليه فقد وردت الرَّجعة في آياتٍ كثيرة من أهمِّها ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُون﴾ [النمل :٨٣] . وفي صدد تفسير هذه الآية الكريمة قال الإمام الصادق (عليه السلام) مثبتًا فيها الرجعة فيما ورد عن حمَّاد بقوله: عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ما يقول الناس في هذه الآية؟ ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾ قلت: يقولون: إنَّها في القيامة، قال: ليس كما يقولون، إنَّ ذلك في الرجعة، أيحشر الله في القيامة من كلِّ أمةٍ فوجًا ويدع الباقين؟ إنَّما آية القيامة قوله: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: 47].
هذا التفسير الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) يثبت به الرَّجعة ويستدلُّ بها قرآنيًّا عن طريق جمع الآيات، وهو تفسير في أعلى درجات الدَّقة والموضوعيَّة؛ لأنَّه يجعل القرآن الكريم يُفسِّر نفسه بنفسه، وعلى أساس هذا القول ذهب كثيرٌ من علمائنا إلى القول بالرجعة وتفسير الآية محلّ البحث بما فسَّرها الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن أولئك العلماء الشيخ المفيد (ت: 413 هـ)، الذي ذهب إلى وجود حشر خاص وآخر عام، وذلك بقوله: ((إنَّ اللَّه تعالى يحيي قومًا من أمّة محمد (صلَّى اللَّه عليه وآله) بعد موتهم قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختصّ به آل محمد، وقد أخبر اللَّه ﷻ في ذكر الحشر الأكبر: ﴿وحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾، وقال سبحانه في حشر الرجعة قبل يوم القيامة: ﴿ويَوْمَ
-------------------------
( 2) تفسير القمي:١/٢٤ ، البرهان في تفسير القرآن: 1/٩٠.
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾، فأخبر أنَّ الحشر حشران: حشر عامّ ، وحشر خاصّ)) ( )، ومن أولئك العلماء أيضًا الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ)، وذلك بقوله في تفسير الآية الآنفة الذكر: ((واستدل به قوم على صحَّة الرجعة في الدنيا؛ لأنَّه قال: من كلِّ أمةٍ، وهي للتبعيض، فدلَّ على أنَّ هناك يومًا يحشر فيه قوم دون قوم، لأنَّ يوم القيامة يحشر فيه الناس عامة، كما قال: ﴿وحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾))( )، وتبعهم في التصوِّر نفسه الشيخ الطبرسي (ت: 548 هـ) بقوله: ((وقد استدل بعض الإمامية، بهذه الآية على صحَّة الرجعة، وقال: إنَّ المذكور فيها: يوم نحشر فيه من كلِّ جماعة فوجًا، وصفة يوم القيامة أنَّه يحشر فيه الخلائق بأسرهم كما قال سبحانه: ﴿وحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾)) ( ).
أمَّا ابن شهر آشوب (ت: 588 هـ) فإنَّه وثَّق الأمر بالآية محلِّ البحث وآياتٍ أخرى فقال: ((لا خلاف أن الله تعالى يحيي الجملة يوم القيامة، فالفوج أنَّما يكون في غير القيامة، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾ [القصص: 85]، قالوا: أي إنَّ الله يردُّك إلى دار الدنيا لنصرة ولدك، ولذلك نكَّر، ولو أراد يوم القيامة لعرَّف، وقال: إلى المعاد، وقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: 28]، دلَّ على أنَّ بين رجعة الآخرة والموت حياة أخرى، ولا ينكر ذلك؛ لأنَّه قد جرى مثله في الزمن الأوَّل، قوله في قصة بني إسرائيل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ﴾ [البقرة: 243]، وقوله في قصَّة عزير أو إرميا: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ..إلى قوله قَدِير﴾ [البقرة: 259]، وقوله في قصة إبراهيم: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، وقال
-------------------------------
( 2) يُنظر المسائل السروية: ٣٢/٣٣
( 3) التبيان في تفسير القرآن: ٨/١٢٠ .
( 4) تفسير جوامع الجامع: ٤/ ٧٢٤ .
المرتضى: الطريق إلى إثبات الرجعة إجماع الإمامية، ثمَّ إنَّ الرجعة لا تنافي التكليف، فإنَّ الدواعي مترددة معها حتى لا يظن ظان أنَّ تكليف من لا يعاد لا يصح)) ( ).
ونختم القول بما ذكره محمد تقي المجلسي (الأول) (ت: 1070 هـ) بهذا الخصوص: ((الرجعة التي هي مذهب أصحابنا، ويدلُّ عليه الأخبار المتواترة، وظاهر الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا﴾، وليس هو يوم القيامة فإنَّه يبعث فيه كلُّ أحد))( ).
وممَّا تقدَّم نجد أنَّ الأمر أصبح جليًّا في البحث القرآني بخصوص الرجعة وما انتهى إليه المفسِّرون إزاء بعض الآيات التي أشارت إليها، وهناك من فصَّل القول أكثر ولكن المقام لا يسمح إلَّا بهذا الموجز من أقوال أساطين علماء الإماميَّة رحمهم الله وأسكنهم فسيح جنانه.
------------------
( 5) متشابه القرآن ومختلفه: ٢/٩٧.
( 6) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: ٣/٦١ .
بتول جاسم الحسني
باحثة حوزويَّة