قال تعالى : (وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذ ) سورة هود، آية 69
لمّا ألقى نمرود إبراهيم (عليه السلام) في النار جعلها الله عليه بردًا وسلامًا بقي إبراهيم مع نمرود وخاف نمرود من إبراهيم فقال :" يا إبراهيم اخرج عن بلادي ولا تساكني فيها" ، وكان إبراهيم (عليه السلام) قد تزوج بسارة وهي بنت خاله وقد كانت آمنت به وآمن به لوط وكان غلامًا ، وقد كان إبراهيم (عليه السلام) عنده غنيمات كان معاشه منها ، فخرج إبراهيم (عليه السلام) من بلاد نمرود ومعه سارة في صندوق ، وذلك أنه كان شديد الغيرة ، فلما أراد أن يخرج من بلاد نمرود منعوه وأرادوا أن يأخذوا منه غنيماته وقالوا له : هذا كسبته في سلطان الملك وبلاده وأنت مخالف له ، فقال لهم إبراهيم : "بيني وبينكم قاضي الملك سندوم" فصاروا إليه فقالوا : إن هذا مخالف لدين الملك ، وما معه كسبه في بلاد الملك ، ولا ندعه يخرج معه شيئًا ، فقال سندوم : صدقوا خلّ عما في يديك ، فقال إبراهيم له : "إنك إن لم تقض بالحق مت الساعة "، قال : وما الحق ؟ قال : قل لهم : "يردّوا عليَّ عمري الذي أفنيته في كسب ما معي حتى أردّ عليهم "، فقال سندوم : يجب أن تردوا عمره ، فخلوا عنه وعما كان في يده ، فخرج إبراهيم (عليه السلام) وكتب نمرود في الدنيا أن لا تدعوه يسكن العمران ، فمرّ ببعض عمال نمرود - وكان كل من مرّ به يأخذ عشر ما معه - وكانت سارة مع إبراهيم في الصندوق ، فأخذ عشر ما كان مع إبراهيم ( عليه السلام) ، ثم جاء إلى الصندوق فقال له : لابد من أن أفتح ، فقال إبراهيم : "عده ماشئت وخذ عشره "، فقال : لا بد من فتحه ، ففتحه فلما نظر إلى سارة تعجب من جمالها ، فقال لإبراهيم : ماهذه المرأة التي هي معك ؟ قال : هي أختي - وإنما عنى أخته في الدين - قال له العاشر : لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك بحالها وحالك ، فبعث رسولًا إلى الملك فأعرضها فحملت إليه فهمّ بها ومدّ يده إليها فقالت له :" أعوذ بالله منك "، فجفت يده والتصقت بصدره وأصابته من ذلك شدة ، فقال : ياسارة ما هذا الذي أصابني منك ؟ فقالت : لما هممت به فقال : قد هممت لك بالخير ، فادعي الله أن يردني إلى ماكنت ، فقالت : اللهم إن كان صادقًا فردّه كما كان ، فرجع إلى ما كان ، و كانت على رأسه جارية فقال : يا سارة خذي هذه الجارية تخدمك وهي هاجر أم إسماعيل (عليه السلام) .
فحمل إبراهيم سارة وهاجر فنزلوا البادية على ممرّ طريق اليمن والشام وجميع الدنيا ، فكان يمرّ به الناس فيدعوهم إلى الإسلام وقد كان شاع خبره في الدنيا أن الملك ألقاه في النار فلم يحترق ، وكانوا يقولون له : لا تخالف دين الملك فإن الملك يقتل من خالفه ، وكان إبراهيم كل من مرّ به يضيفه ، وكان على سبعة فراسخ منه بلاد عامرة كثير الشجر والنبات والخير وكان الطريق عليها ، وكان كل من يمرّ بتلك البلاد يتناول من ثمارهم وزروعهم فجزعوا من ذلك فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم : أدلكم على ما إن فعلتموه لم يمرّ بكم أحد ؟ فقالوا : ما هو ؟ فقال : من مرّ بكم فانكحوه في دبره واسلبوه ثيابه ، ثم تصور لهم إبليس في صورة أمرد أحسن ما يكون من الشباب فجاءهم فوثبوا عليه ففجروا به كما أمرهم فاستطابوه فكانوا يفعلونه بالرجال ، فاستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، فشكا الناس ذلك إلى إبراهيم (عليه السلام) فبعث إليهم لوطًا يحذرهم وينذرهم ، فلما نظروا إلى لوط قالوا : من أنت ؟ قال : أنا ابن خال إبراهيم الذي ألقاه الملك في النار فلم يحترق وجعلها الله عليه بردًا وسلامًا وهو بالقرب منكم فاتقوا الله ولا تفعلوا هذا فإن الله يهلككم فلم يجسروا عليه وخافوه وكفّوا عنه ، وكان لوط كلما مرّ به رجل يريدونه بسوء خلصه من أيديهم ، وتزوج لوط فيهم وولد له بنات ، فلما طال ذلك على لوط ولم يقبلوا منه قالوا له : ( قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) سورة الشعراء، آية 167، أي لنخرجنك ، فدعا عليهم لوط فبينا إبراهيم قاعد في موضعه الذي كان فيه وقد كان أضاف قومًا وخرجوا ولم يكن عنده شيء فنظر إلى أربعة نفر قد وقفوا عليه لا يشبهون الناس ، (قالُوا سَلامًا) ، فقال إبراهيم : (سَلامٌ) ، فجاء إبراهيم (عليه السلام) إلى سارة فقال لها : قد جاءني أضياف لا يشبهون الناس ، فقالت : ما عندنا إلّا هذا العجل فذبحه وشواه وحمله إليهم وذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ
* فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) سورة هود، آية 69 - 70 .
وجاءت سارة في جماعة معها فقالت لهم : ما لكم تمتنعون من طعام خليل الله ؟ فقالوا لإبراهيم : (لا تَخَفْ) ،( إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ * وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) سورة هود، آية 71
ففزعت سارة وضحكت أي حاضت وقد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل فقال الله عزّ وجلّ : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) فوضعت يدها على وجهها (قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) سورة هود، آية 72 ، فقالوا لها : ( أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى ) سورة هود، آية 73- 74
أقبل يجادل كما قال الله : ( يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) سورة هود، آية 75
فقال إبراهيم لجبرئيل : بماذا أرسلت ؟ قال : بهلاك قوم لوط ، فقال إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطًا) ! ، قال جبرئيل :
(قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) سورة العنكبوت، آية 32
، قال إبراهيم : يا جبرئيل إن كان في المدينة مائة رجل من المؤمنين يهلكهم الله ؟ قال : لا ، قال : فإن كان فيهم خمسون ؟ قال : لا ، قال : فإن كان فيهم عشرة ؟ قال : لا ، قال : وإن كان فيهم واحد ؟
قال : لا ، وهو قوله : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سورة الذاريات، آية 36 .
فقال إبراهيم : يا جبرئيل راجع ربك فيهم ، فأوحى الله كلمح البصر : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) سورة هود، آية 76
فخرجوا من عند إبراهيم (عليه السلام) فوقفوا على لوط في ذلك الوقت وهو يسقي زرعه فقال لهم لوط : من أنتم ؟ قالوا : نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة ، فقال لهم : ياقوم إن أهل هذه القرية قوم سوء - لعنهم الله وأهلكهم - ينكحون الرجال ويأخذون الأموال ، فقالوا : فقد أبطأنا فأضفنا ، فجاء لوط إلى أهله - وكانت منهم - فقال لها : إنه قد أتاني أضياف في هذه الليلة فاكتمي عليهم حتى أعفو عنك إلى هذا الوقت ، قالت : أفعل ، وكانت العلامة بينها وبين قومها إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن فوق السطح وإذا كان بالليل توقد النار ، فلما دخل جبرئيل والملائكة معه بيت لوط (عليه السلام) وثبت امرأته على السطح فأوقدت نارًا فعلِم أهل القرية وأقبلوا إليه من كل ناحية كما حكى الله عزّ وجلّ : ( وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) سورة هود، آية 78
أي يسرعون و يعدون ، فلما صاروا إلى باب البيت قالوا : ( قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) سورة الحجر، آية 70
فقال لهم كما حكى الله : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) .
وحدثني أبي ، عن محمد بن عمرو رحمه الله في قول لوط : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال : عنى به أزواجهم ، وذلك أن النبي هو أبو أمته فدعاهم إلى الحلال ولم يكن يدعوهم إلى الحرام ، فقال : أزواجكم (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)
(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) سورة هود، آية 79
فقال لوط لما آيس :
(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) سورة هود، آية 80
.
أخبرني الحسن بن علي بن مهزيار ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : "ما بعث الله نبيًا بعد لوط إلّا في عزّ من قومه" .
وحدثني محمد بن جعفر ، عن محمد بن أحمد ، عن محمد بن الحسين ، عن موسى بن سعدان ، عن عبدالله بن القاسم ، عن صالح ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال في قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال : القوة القائم (عليه السلام) ،والركن الشديد ثلاث مائة وثلاثة عشر .
قال علي بن إبراهيم : فقال جبرئيل : لو علم ماله من القوة ; فقال : من أنتم ؟ قال جبرئيل : أنا جبرئيل ، فقال لوط : بماذا أمرت ؟ قال : بهلاكهم ، قال : الساعة فقال جبرئيل : ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) سورة هود، آية 81
فكسروا الباب ودخلوا البيت فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فطمسها وهو قول الله عزّ وجلّ : (وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ) سورة القمر، آية 37
فلما رأوا ذلك علموا أنه قد أتاهم العذاب فقال جبرئيل للوط : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ) وكان في قوم لوط رجل عالم فقال لهم : ياقوم قد جاءكم العذاب الذي كان يعدكم لوط فاحرسوه ولا تدعوه يخرج من بينكم فإنه مادام فيكم لا يأتيكم العذاب ، فاجتمعوا حول داره يحرسونه ، فقال جبرئيل : يا لوط اخرج من بينهم ، فقال : كيف أخرج وقد اجتمعوا حول داري ؟ فوضع بين يديه عمودًا من نور فقال له : اتبع هذا العمود و لا يلتفت منكم أحد ، فخرجوا من القرية من تحت الأرض ، فالتفتت امرأته فأرسل الله عليها صخرة فقتلها ، فلما طلع الفجر سارت الملائكة الأربعة كل واحد في طرف من قريتهم فقلعوها من سبع أرضين إلى تخوم الأرض ثم رفعوها في الهواء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصراخ الديك ، ثم قلبوها عليهم ، وأمطرهم الله حجارة من سجيل منضود
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) سورة هود، آية 83.