يستفاد من القرآن الكريم أن في مرحلة ابتداء عالم الآخرة وحدوثه لا يتم إحياء الناس من جديد فحسب، بل يحصل تغير شامل في نظام هذا العالم آنذاك، ويقوم عالم آخر ذو خصائص أخرى عالم لا يمكن لنا التنبؤ بأحواله بدقة، وبطبيعة الحال لا يمكن أن نملك معرفة دقيقة بخصائصه، وآنذاك سوف يبعث جميع البشر سوية منذ بداية الخلقة حتى نهايتها؛ ليروا نتائج أعمالهم، وليقيموا أبداً في النعيم أو الجحيم.
وبما أن الآيات المرتبطة بهذا الموضوع كثيرة، والبحث فيها جميعاً يطول؛ لذلك نكتفي بذكر خلاصة لمضامينها.
حالة الأرض والبحار والجبال :
تحدث في الأرض زلزلة عظيمة، وتخرج الأرض أثقالها وتلقي ما فيها خارجاً، وتندك أجزاؤها وتتلاشى، وتتفجر البحار وتتشقق، وتتحرك الجبال وتسير، وتندك دكاً؛ لتصبح كالكثيب المهيل أي الرمل المنشور، وبعد ذلك تصبح كالصوف المنفوش، ثم تتطاير في الفضاء، فلا يبقى من الجبال المرتفعة جداً إلا سراب.
حالة السماوية والنجوم :
وأما القمر والشمس والنجوم العظيمة، وبعضها أكبر من شمسنا ملايين المرات أو أشد ضياء فينكدر ضياؤها وينطفئ، ويضطرب نظام حركتها ويختل، ويجمع الشمس والقمر، وأما السماء التي هي مثل السقف المحفوظ والمحكم يحيط بهذا الكون، فإنها تمور موراً وتتزعزع وتصبح واهية، وتتشقق وتتفطر وتذوب، ويطوى سجلها، وتذوب الأجرام السماوية كالمعدن المذاب، ويمتلئ فضاء الكون بالدخان والغيوم.
صيحة الموت :
وفي مثل هذه الأوضاع والأحوال ينفخ في الصور وتنبعث صيحة الموت، وتموت جميع الموجودات والكائنات الحية، ولا يبقى في عالم الطبيعة عين ولا أثر للحياة، ويدب الفزع والاضطراب في النفوس إلا أولئك العارفون بحقائق الوجود وأسراره، وقلوبهم غريقة بالمعرفة والمحبة الإلهية.
صيحة البعث وبداية القيامة :
وبعد ذلك يقوم عالم آخر يمتلك القابلية على البقاء و الخلود، وتشرق الأرض بنور ربها، وتنبعث صيحة البعث و النشور، وترد الحياة إلى جميع الناس بل الحيوانات أيضاً ، وفي لحظة واحدة يتجه الجميع مضطربين حائرين كالجراد والفراشات المنتشرة في الهواء مسرعين إلى الحضور بين يدي الله، ويجمع الناس جميعاً في مكان عظيم، ويتوهم كثير منهم أنهم لم يلبثوا في عالم البرزخ إلا ساعة أو يوماً أو أياماً قليلة.
قيام الحكومة الإلهية وتقطع الأسباب والأنساب :
في ذلك العالم تتكشف الحقائق، والملك والحكم كله لله، وتستولي على جميع الخلائق هيبة لا يمكن معها لأي أحد أن يتكلم بصوت مرتفع، وكل واحد منهم منصرف وغارق في التفكير بمصيره، وحتى الابن يفرّ من أمه وأبيه، والأقرباء كل منهم يفر من الآخر وتتقطع الأسباب والأنساب ، وتبدل الصداقات والعلائق القائمة على أساس المنافع والمعايير الدنيوية والشيطانية إلى خصومة وعداء وتملأ النفوس الحسرة والندم على ما فرّطوا في الدنيا.
محكمة العدل الإلهية :
وبعد ذلك تشكل محكمة العدل الإلهية، وتحضر أعمال العباد جميعاً، وتوزع صحائف الأعمال، وينسب كل فعل لفاعله الحقيقي بدرجة من الوضوح لا يحتاج معها للسؤال عن عمله.
ويحضر في هذه المحكمة الملائكة والأنبياء والمختارون من عباد الله شهداء، بل إن اليد والرجل وجلد البدن ستتكلم وتشهد، ويحاسب الناس جميعاً بدقة، ويوزن حسابهم بالميزان الإلهي، ويقضى بينهم على أساس العدل والقسط، وسيرى كل واحد منهم نتيجة سعيه وعمله، ، ولا تقبل من أحد فدية، ولا تقبل شفاعة أحد إلا شفاعة أولئك الذين أذن الله تعالى لهم بالشفاعة حيث يشفعون وفق المعايير التي يرضى بها الله.
باتجاه المستقر الأبدي :
ثم يعلن عن الحكم الإلهي، و يميز ويفرق بين الأخيار والأشرار، ويتجه المؤمنون للجنة بوجوه مبيضة مستبشرة ضاحكة بينما يتجه الكفار والمنافقون للجحيم بوجوه مسودة كئيبة وبكل صغار وذلة،
ويعبر الجميع من فوق جهنم والنور يشرق من وجوه المؤمنين وهو يضيء طريقهم بينما يقيم الكفار والمنافقون في ظلام دامس، ويقول المنافقون لمن كانوا معهم من المؤمنين في الدنيا: ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير).
وحين يقترب المؤمنون من الجنة تفتح لهم أبوابها، وتستقبلهم ملائكة الرحمة مسلمين عليهم باحترام، ويبشرونهم بالسعادة الأبدية. ولكن حين يصل الكفار والمنافقون إلى جهنم تفتح لهم أبوابها، ويؤنبهم ملائكة العذاب بشدة وعنف، ويعدونهم بالعذاب الأبدي.
الجنة :
توجد في الجنة رياض وحدائق واسعة عرضها السماوات والأرض مليئة بأنواع الأشجار التي تحمل جميع أنواع الفواكه الناضجة والدانية سهلة التناول، وفيها مساكن طيبة واسعة وأنهار من ماء عذب، ولبن وعسل وشراب طهور، ولهم فيها ما يشاؤون ويرغبون؛ بل أكثر مما يشاؤون ويرغبون.
ولباس أهل الجنة من حرير وسندس واستبرق ومحلاة بأنواع الحلي، ويتكئون متقابلين على سرر مزينة وأرائك ناعمة ولا يسمع من أهل الجنة إلا حمد الله وشكره، ولا ينطقون باللغو ولا التأثيم ولا يسمعونه، ولا يؤذيهم البرد ولا الحر، ولا يعرفون الألم والتعب والملل، ولا الخوف والحزن، ولا يحملون في قلوبهم حقداً وغلاً.
يطوف حولهم خدم من الولدان المخلدين كأنهم لؤلؤ مكنون حسناً وجمالاً، يقدمون لهم أكواباً من شراب الجنة فيبعث فيهم لذة ونشاطاً لا يوصفان، ليس فيه أذى ولا ضرر، ويتناولون من مختلف أنواع الفواكه، ولحوم الطير ويتمتعون بزوجات جميلات متحببات لأزواجهن، مطهرات من العيوب أسمى من ذلك كله إنهم يتزودون من النعمة الروحية، والرضوان الإلهي، ويحصلون من ربهم على ألطاف يغرقون معها في سرور لا يمكن لأحد أن يتصور درجته، وإن هذه السعادة لا مثيل لها، وهذه النعم التي لا يمكن وصفها، وهذه الرحمة والرضوان والقرب الإلهي كلها تبقى خالدة مؤبدة وليست لها نهاية.
جهنم :
وهي مقر الكفار والمنافقين الذين ينعدم النور في قلوبهم، وهذا المكان من السعة بحيث إنه بعد أن يضم ويحتوش جميع المجرمين يقول: (هل من مزيد)،
وليس فيه إلا النار والعذاب!
ألسنة النار تتصاعد في جهنم من جميع الجهات، وأصواتها المفزعة الغاضبة تزيد من الوحشة والرعب والاضطراب، وجوه عبوسة مقطبة، مظلمة، سوداء، قبيحة كالحة وحتى الملائكة الموكلون بجهنم غلاظ شداد لا ترى في وجوههم أثراً للعطف والرقة.
وأصحاب الجحيم مقرّنون في الأصفاد مقيدون بسلاسل من حديد تحيط بهم النار من كل جانب وهم وقود النار، ولا يسمع في جهنم إلا تأوه أصحاب الجحيم وأنينهم وضجيجهم وزفيرهم وشهيقهم، وصراخ خزنة جهنم الموكلين بأمرها، ويصب على وجوه المجرمين الحميم، وهو ماء حار شديد الحرارة يصهر به ما في بطونهم، وإن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل وماء حميم نتن يقبلون عليه كالإبل العطاش، ويشربونه فيطقع أمعاءهم، وطعامهم من شجرة الزقوم، وهي شجرة تنبت في الجحيم يزيد أكلها من عذابهم، واحتراق بطونهم أما لباسهم فهو من مادة سوداء لزجة تزيد بورها من عذابهم، وأما قرناؤهم والمصاحبون معهم في النار فهم من الشياطين والجن العصاة، ويتمنون الابتعاد عنهم، وكل منهم يلعن الآخر ويتخاصم معه.
وحين يحاولون إظهار الندم والاعتذار لله، فسوف يواجهون بشدة ليسكتوا وحينئذ يلجأون لخزنة جهنم: "وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال".
ومرة أخرى يطالبون بالموت، ولكن يأتيهم الجواب: ستمكثون في النار إلى الأبد ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون، وبالرغم من أن الموت يحيطهم من كل جانب، ولكن لا يموتون، وكلما احترقت جلودهم بدلت بجلود حديدة، ويستمر عذابهم.
ويطلبون إلى أهل الجنة أن يعطوهم قليلاً من الماء والطعام، ويأتيهم الجواب: إنه تعالى حرم عليهم نعم الجنة، ويسألهم أهل الجنة: ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ).
ثم يأخذون بالتفاهم فيما بينهم، ويقول الضالون لمن أضلوهم: إنكم أنتم أضللتمونا ؟
ويجيبهم أولئك: إنكم بأنفسكم ورغبتكم اتبعتمونا.
ويقول المستضعفون والضعفاء للمستكبرين: " لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ .
وأخيراً يقولون للشيطان : إنك أنت أضللتنا؟
فيجيبهم الشيطان:( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ).
ولذلك كله فلا مناص لهم إلا الاستسلام لعقاب كفرهم وضلالهم، والبقاء في العذاب وإلى الأبد.