إن لهذه السّورة مكانة متميّزة بين سائر سور القرآن الكريم، وتتميز بالخصائص التالية :
1- سياق السّورة : تختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لحنها وسياقها، فسياق السُور الاُخرى يعبّر عن كلام الله، وسياق هذه السّورة يعبّر عن كلام عباد الله. وبعبارة اُخرى: شاء الله في هذه السّورة أن يعلّم عباده طريقة خطابهم له ومناجاتهم إيّاه. تبدأ هذه السّورة بحمد الله والثناء عليه، وتستمر في إقرار الإِيمان بالمبدأ والمعاد «بالله ويوم القيامة» وتنتهي بالتضرع والطلب. الإِنسان الواعي المتيقّظ يحسّ وهو يقرأ هذه السّورة بأنّه يعرج على أجنحة الملائكة، ويسمو في عالم الروح والمعنوية، ويدنو باستمرار من ربّ العالمين. هذه السّورة تعبّر عن إتجاه الإِسلام في رفض الوسطاء بين الله والإِنسان ... هؤلاء الوسطاء الذين افتعلتهم المذاهب الزائفة المنحرفة، وتُعلّم البشر أن يرتبطوا بالله مباشرة دونما واسطة، فهذه السّورة عبارة عن تبلور هذا الارتباط المباشر والوثيق بين الله والإِنسان ... بين الخالق والمخلوق. فالإنسان لا يرى في مضامين آيات السّورة سوى الله ... يخاطبه ... يناجيه ... يتضرّع إليه ... دونما واسطة حتى وإن كانت الواسطة نبيّاً مرسلا أو ملكاً مقرّباً. ومن العجيب أن يحتلّ هذا الإِرتباط المستقيم بين الخالق والمخلوق مكان الصدارة في كتاب الله العزيز!.
2 ـ سورة الحمد أساس القرآن ـ فقد روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لجابر بن عبدالله الأنصاري: «ألا أُعَلّمُكَ أَفْضَلَ سُورَة أَنْزَلَهَا اللهُ في كِتَابِهِ؟» قَالَ جَابرُ: بَلى بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِيهَا. فَعَلَّمَهُ الْحَمْدَ أُمَّ الْكِتَابِ، وَقَالَ: هِي شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاء، إِلاّ السَّامَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ»[1]. وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ في التَّوْرَاةِ، وَلاَ في الإنجيل ولا في الزّبُورِ وَلا في الْقُرْآنِ مِثْلَهَا، وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ»[2].
سبب أهمية هذه السّورة يتضح من محتواها، فهي في الحقيقة عرض لكل محتويات القرآن، جانب منها يختصّ بالتوحيد وصفات الله، وجانب آخر بالمعاد ويوم القيامة، وقسم منها يتحدّث عن الهداية والضلال باعتبارهما علامة التمييز بين المؤمن والكافر وفيها أيضاً إشارات إلى حاكمية الله المطلقة، وإلى مقام ربوبيّته، ونعمه اللامتناهية العامة والخاصة «الرحمانية والرحيمية»، وإلى مسألة العبادة والعبودية واختصاصهما بذات الله دون سواه. إنّها تتضمّن في الواقع توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتوحيد العبادة. وبعبارة اُخرى: تتضمّن هذه السّورة مراحل الإِيمان الثلاث: - الاعتقاد بالقلب . - والإِقرار باللسان . - والعمل بالأركان . ومن المعلوم أنّ لفظ «الأُمّ» يعني هنا الأساس والجذر. ولعل ابن عباس ينطلق من هذا الفهم إذ يقول: «إن لكل شيء أساساً ... وأساس القرآن الفاتحة». ومن هذا المنطلق أيضاً قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما روي عنه: «أَيُّمَا مُسْلِم قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أُعْطِيَ مِنَ الاْجْرِ كَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلْثيِ الْقُرْآنِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الاْجْرِ كَأَنَّمَا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة» [3]. تعبير «ثلثي القرآن»، ربّما كان إشارة إلى أنّ القرآن ينطوي على ثلاثة أقسام: الدّعوة إلى الله، والإِخبار بيوم الحساب، والفرائض والأحكام. وسورة الحمد تتضمن القسمين الأوَّلَين. وتعبير «أُمّ القرآن» إشارة إلى القرآن يتلخّص من وجهة نظر اُخرى في (الإِيمان والعمل) وقد جمعا في سورة الحمد.
3 ـ سورة الحمد شرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ القرآن الكريم يتحدّث عن سورة الحمد باعتبارها هبة إلهية لرسوله الكريم، ويقرنها بكل القرآن إذ يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [4]. فالقرآن بعظمته يقف هنا إلى جنب سورة الحمد، ولأهمية هذه السّورة أيضاً أنّها نزلت مرّتين. نفس هذا المضمون رواه أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنَّ اللهَ تعالى قَالَ لِي يا محمّد وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فأفرَدَ الإِمْتنَانَ عَلَيَّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَجَعَلَهَا بِإزَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَإِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أشْرَفُ مَا فِي كُنُوزِ الْعَرْشِ...»[5].
4 ـ التّأكيد على تلاوة هذه السّورة ـ ممّا تقدم نفهم سبب تأكيد السّنة بمصادرها الشيعية والسنّية على تلاوة هذه السّورة ـ فتلاوتها تبعث الروح والإِيمان والصفاء في النفوس، وتقرّب العبد من الله، وتقوّي إرادته، وتزيد اندفاعه نحو تقديم المزيد من العطاء في سبيل الله، وتبعده عن ارتكاب الذنوب والإِنحرافات. ولذلك كانت أُمّ الكتاب صاعقة على رأس إبليس كما ورد عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «رَنَّ إِبْلِيسُ أَرْبَعَ رَنّات، أَوَّلُهُنَّ يَوْمَ لُعِنَ، وَحِينَ أُهْبِطَ إِلَى الاِْرْضِ، وَحِينَ بُعِثَ محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ عَلى حِين فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَحيِنَ نَزَلَتْ أُمُّ الْكِتَابِ»[6].
المصدر : تفسير الأمثل – للشيخ ناصر مكارم الشيرازي / ج 1 / ص 15 . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]- مجمع البيان، مقدمة سورة الحمد. [2]- مجمع البيان، مقدمة سورة الحمد. [3]ـ مجمع البيان، بداية سورة الحمد. [4]- سورة الحجر/ الآية : 87. [5]ـ تفسير البرهان/ ج 1 / ص 26 . [6]ـ نور الثقلين / ج 1/ ص 4.