قبس من القرآن في صفات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)


بقلم: الشيخ عبد اللطيف البغدادي


-الفرق بين الرسول والنبي:

قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) وصف الله سبحانه نبينا محمداً(صلى الله عليه و آله وسلم) في هذه الآية بكونه رسولاً وكونه نبياً، وإليك الفرق بينهما لغة واصطلاحاً وحديثاً:


في اللغة:

(النبي) إما مأخوذ من مادة النبأ، بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن، ولكن أكثر العرب لا تهمزه، كما أن الثابت في القرآن غير مهموز، وأما بمعنى الارتفاع وعلو الشأن.


و(الرسول) الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذاً من قول العرب (جاءت الإبل رسلاً) أي متتابعة، وسمي الرسول رسولاً لأنه ذو رسول، أي ذو رسالة.


في الاصطلاح:

النبي هو إنسان أوحى الله تعالى إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم من خبر أو حكم، فيكون عالماً به بواسطة الوحي إليه علماً ضرورياً أنه من الله عز وجل فيخبر به عن الله بغير واسطة أحد من البشر.


والرسول نبيٌّ أمره الله تعالى بتبليغ شرع ودعوة دين.

يقول بعض المفسرين(1):

النكتة في تقديم الله تعالى كلمة الرسول على كلمة النبي لكون الرسالة أهم وأشرف، وقيل إنهما – أي كلمتي الرسول والنبي – ذكرتا هنا بمعناهما اللغوي، كقوله تعالى في كل من موسى وإسماعيل (وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [سورة مريم/52 و55].


في الحديث:

الذي يستفاد من الأخبار الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في الفرق بين الرسول والنبي هو:أن الرسول من يسمع صوت الملك، ويراه في المنام، ويعاين الملك في اليقظة كما يعاين بعضنا الآخر، ويبشره الملك يوم بعثته عند معاينته بأنه رسول الله إلى عباده أو إلى بعض عباده حسب اقتضاء الحكمة الإلهية.

والنبي يسمع صوت الملك، ويراه في المنام، ولكن لا يعاين الملك في اليقظة؛ بل يوحي إليه بالعمل من طريق سماع صوت الملك ورؤيته في المنام(2).

وبالمثال يتضح الحال، فنقول:

كان نبينا محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و آله وسلم) قبل أن يبعث بالرسالة ومنذ ولد ونشأ نبياً يرى الملك في نومه ويسمع صوته في يقظته، ويسلك به طرق الخير كلها كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام) في خطبته المعروفة بالقاصعة:

(ولقد قرن الله به -صلى الله عليه وآله- من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به)(3).

وبهذه المناسبة نقول: ربما يسأل عن أن نبينا محمداً(صلى الله عليه و آله وسلم) قبل أن يبعث بالرسالة هل كان يتعبد ويعمل بإحدى شرائع الأنبياء السابقين كشريعة إبراهيم أو موسى أو عيسى (عليهم السلام) أو كان يعمل بشريعته التي سيبعث بها إلى أمته؟

والجواب المختصر على هذا:

إنه(صلى الله عليه و آله) لما كان نبياً منذ أن ولد ونشأ ويوحي الله تعالى إليه على لسان أعظم ملك من ملائكته فهو بالقطع واليقين يعبد الله جل وعلا طبق ما يوحي إليه، سواء ما كان يوحي إليه من الشرائع السابقة أو من صميم شريعته التي بعث بها أخيراً … وهذا هو الأظهر.

قال شيخنا المجلسي في (البحار) بعد أن ذكر أقوال العلماء وآراءهم حول الموضوع(4):

فاعلم أن الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة والآثار المستفيضة هو أنه (صلى الله عليه وآله) كان قبل بعثته مؤيداً بروح القدس يكلمه الملك ويسمع الصوت ويرى في المنام، ثم بعد أربعين سنة صار رسولاً وكلمه الملك معاينة وأنزل عليه القرآن وأمر بالتبليغ، وكان قبل ذلك يعبد الله بصنوف العبادات، أما موافقاً لما أمر به الناس بعد التبليغ وهو الأظهر، أو على وجه آخر – إلى آخر كلامه.

وعلى كل، كان(صلى الله عليه و آله) أول أمره نبياً يرى في المنام ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، وربما يعاينه ولا يسمع صوته، فلما آن وقت بعثه وكمل له من العمر أربعون سنة جاءه الملك – وهو أمين الوحي (جبرائيل) – عياناً وبشره بالرسالة من قبل الله (عز وجل) إلى عباده فصار رسولاً نبياً.

وربما يسأل أيضاً: هل أن كل نبي لا بد أن يرسل أخيراً ؟

الجواب: لا، بل ربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد فيكون رسولاً نبياً وقد يبقى النبي على نبوته ولا يرسل.

ويجوز أن يرسله رسول زمانه – الذي هو إمام عليه – إلى قومه ليدعوهم إلى شريعته وأحكامه، كما أن إبراهيم بعث لوطاً إلى قومه بأمر ربه يدعوهم إلى شريعته(5).

ومن هنا اتضح الفرق بين الرسول والنبي، وهو أن كل رسول نبي ولا عكس، أي ليس كل نبي رسولاً، فكأن النبوة عامة والرسالة تخص أفراداً منهم، كما تقول مثلاً: كل حاكم درس الحقوق وليس كل من درس الحقوق حاكماً، لأن كلية الحقوق يتخرج فيها الألوف، ويحمل كل واحد منهم شهادة المحاماة وهو عارف بالقانون ولكن كلهم لا يتخذون حكاماً، إنما ينتخب منهم للحكم أفراد مخصوصون والذين ينتخبون للحكم بعضٌ يكون حاكماً على القطر كله وبعضهم يكون حاكماً على لواء أو قضاء أو ناحية، ولكل منزلته على قدر مواهبه ومعارفه.

فأنبياء الله كلهم عالمون بالقانون الإلهي بما يوحى إليهم، ويقومون بتوجيه العباد إليه تعالى، ويؤيدهم (عز وجل) بالمعاجز التي يعجز الناس عن الإتيان بمثلها، تصديقاً من الله لدعوتهم، ولكن بعضهم يبقى على وظيفته من النبوة وبعضهم يترقى إلى منزلة الرسالة.


-عدد الأنبياء والمرسلين:

ومن هنا كان الأنبياء أكثر عدداً من المرسلين منهم، كما يظهر من كثير من الأحاديث:

جاء في حديث أبي ذر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه سأله: كم النبيون؟ قال(صلى الله عليه و آله): (مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، فقال: كم المرسلون ؟ قال (صلى الله عليه وآله): ثلاثمائة وثلاثة عشر) الحديث(6).

وروى الرازي في تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب) في تفسير قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)… الآية [الحج/ 53] عن النبي(صلى الله عليه و آله) أنه سئل: كم المرسلون ؟ فقال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر، فقيل: وكم الأنبياء ؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً)(7).


وحديث عدد الأنبياء والمرسلين هذا من الأحاديث الشهيرة المروية في كتب الفريقين.

والمرسلون (الثلاثمائة والثلاثة عشر) لم تكن رسالتهم عامة بأجمعهم بل الأكثر منهم رسالته خاصة إلى طائفة معينة قلوا أم كثروا، كيونس(عليه السلام) الذي قال تعالى فيه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات/ 148]. قال الإمام الصادق(عليه السلام): يزيدون ثلاثين ألفاً(8).


-من ذكرهم القرآن من الأنبياء:


والقرآن يصرح في أن الله تعالى لم يقصص فيه لنبيه(صلى الله عليه و آله) جميع رسله، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [المؤمن/ 79].

والذين قصهم الله تعالى في كتابه بالاسم (خمسة وعشرون) نبياً وهم: ( آدم، نوح، إدريس، هود، صالح، إبراهيم، لوط، اليسع، ذو الكفل، أيوب، إلياس، يونس، إسحاق، يعقوب، يوسف، شعيب، موسى، هارون، داوود، سليمان، زكريا، يحيى، إسماعيل صادق الوعد (9)، عيسى، محمد -صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين-).


 ويذكر بعض العلماء الأدباء أسماء الرسل والأنبياء المذكورين في القرآن بقوله:

الأنبياء والرسل في القرآن***خــمــس وعشرون فخذ بياني

هـم آدم إدريـــس نــوح هود***يــونــس اليــاس يــسع داودُ

ثــــم شــعــيــب صالح أيوب***إســحـــاق ثم يوسف يعقوب

هارون إبراهيم لوط موسى***ذو الكفل يحيى زكريا عيسى

ثــم ســلــيــمـان وإسماعيل***خــاتــمــهــم مـحـمـد الـخـليلُ


وهناك عدة من الأنبياء لم يذكروا بأسمائهم بل بالتوصيف والكناية قال عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة/ 247].

وقال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) [البقرة/ 260].

وقال جل وعلا: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) [يس/ 16].


وقال عز وجل: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) [الكهف/ 66].


وقال عز من قائل عطفاً على بعض الأنبياء (وَالأَسْبَاطِ) [البقرة/ 141].


وهناك من لم يتضح كونه نبياً، كفتى موسى في قوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) [الكهف/61].

ومثل (ذي القرنين ، وعمران أبي مريم ، ولقمان الحكيم ) من الذين صرح الله تعالى بأسمائهم، ولكن لم يتضح كونهم من الأنبياء.


-أولو العزم سادة الأنبياء والمرسلين:

خمسة من المرسلين المذكورين في القرآن الكريم رسالتهم عامة وهم أولو العزم من الرسل، وقد جمع الله تعالى لهم النبوة والرسالة والإمامة المطلقة، وهم سادة النبيين والمرسلين، وهم: (نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد،  صلى الله عليهم أجمعين).

هؤلاء المرسلون هم أهل الشرايع العامة، وشريعة كل لاحق منهم نسخت شريعة السابق، كما روى شيخنا الصدوق بسنده إلى الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: إنما سمي أولو العزم أولي العزم ؛ لأنهم كانوا أصحاب الشرايع والعزائم، وذلك أن كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل(عليه السلام) وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى(عليه السلام) ، وكل نبي كان في زمن موسى أو بعده كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى أيام عيسى(عليه السلام)، وكل نبي في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد(صلى الله عليه و آله).

ثم قال الإمام الرضا(عليه السلام): فهؤلاء الخمسة أولو العزم، فهم أفضل الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، وشريعة محمد(صلى الله عليه وآله) لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة. (الحديث)(10).

هذا ويمكن أن يقال – على سبيل التقريب والمثال – إن مثل من سبق نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنبياء المرسلين في شرائعهم كمثل المصابيح، كل مصباح منها وضع في حجرة لا يضيء سواها. أما مثل نبينا في شريعته الخالدة كمثل الشمس الطالعة، فحينما ظهرت شمس الرحمة من البلاد العربية لم يبق هناك من حاجة إلى تلك المصابيح المحدودة المدى، وليس في مقدور أي نور أو مصباح أن يخلف هذه الشمس الطالعة المشرقة (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (11).


-مقتضيات الخلود في الشريعة الإسلامية:

لما كان الرسول الأعظم(صلى الله عليه و آله وسلم) هو خاتم الأنبياء ، وشريعته خاتمة الشرائع، و(حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)(12) كان مما اقتضته الحكمة الإلهية أمور ثلاثة:


-مرونة الشريعة الإسلامية:

شاء الله تعالى بقدرته التامة وحكمته البالغة أن يجعل هذه الشريعة الخالدة أكمل الشرائع وأتمها وأوسعها وأسمحها، وأن يجعل فيها من المرونة ما يجعلها قابلة للتطبيق في كل عصر ومصر، وصالحة للعمل بها في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

نعم، لا ينكر أن العمل بالشريعة الإسلامية في زماننا هذا أصبح شاقاً على كثير من الناس؛ بسبب انتشار المبادئ الهدامة، والأحزاب المخربة، والأهواء المضللة، والعصبيات البغيضة، والحكومات المستعمرة الكافرة التي أشاعت في الملأ الإسلامي كل فسق وفجور، وكل دعارة وشرور؛ فلذا أصبح المؤمن اليوم كما وصفه المشرع الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته لعبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) بقوله: (صلى الله عليه و آله): (يا ابن مسعود، يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه مثل القابض على الجمر بكفه، يا ابن مسعود، الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء ...) إلى آخر الوصية ، وهي وصية جليلة ونافعة، (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق/ 38]، ودليل صحتها بعد القرآن الوجدان والعيان ، فما أحرى رواد الحق بمراجعتها وتدبرها(13).


-وجود المعجزة الخالدة:

وشاء الله تعالى بقدرته التامة وحكمته البالغة أن يجعل لخاتم أنبيائه ولشريعته الخالدة معجزاً خالداً مع خلود شريعته إلى يوم القيامة ليكون ذلك المعجز حجة الله على جميع العباد، وهو القرآن المـجيد الـذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت/ 43].

وسنذكر في بحث الصفة الثالثة في الآية (الأمي) كيف أن القرآن معجز خالد لنبينا وشريعته، وحقيقة إعجازه -إن شاء الله تعالى-.

قال سماحة آية الله السيد أبو القاسم الخوئي (14) في كتابه (البيان في تفسير القرآن) تحت عنوان (القرآن معجزة خالدة) ما يلي(15):

قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والإيمان بها ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهداً لدعواه، ولما كانت نبوات الأنبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ومحدودة، لأنها شواهد على نبوات محدودة، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة، والبعض الآخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر فتقوم عليه الحجة أيضاً.

أما الشريعة الخالدة فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضاً؛ لأن المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الأمد لم يشاهدها البعيد، وقد تنقطع أخبارها المتواترة، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة، فإذا كلفه الله بالإيمان بها كان من التكليف بالممتنع، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله، فلا بد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة مستمرة.

وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهاناً على صدق الرسالة الخالدة، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة على السلف وقد نتج لنا عما قدمناه أمران:

الأول: تفوق القرآن على المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين وعلى المعجزات الأخرى التي ثبتت لنبينا محمد(صلى الله عليه و آله) لكون القرآن باقياً خالداً، وكون إعجازه مستمراً يسمع الأجيال ويحتج على القرون.

الثاني: إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها، لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها(16).

ثم أن القرآن يختص بخاصة أخرى، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر وسوقهم إلى غاية كمالهم .  إلى آخر كلامه (رحمه الله).


-استمرار الخلافة إلى يوم القيامة:

وشاء الله تعالى بقدرته التامة وحكمته البالغة أن يجعل لنبيه خلفاء وأوصياء وأئمة واحداً بعد واحد، قائمين مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ شريعته الخالدة إلى الأجيال وحفظها من الضياع(17) وأن يجعلهم مثالاً له (صلى الله عليه وآله وسلم) تماماً في التمسك بها والعمل طبق نهجها، والعلم بجزئيها وكليها، والإحاطة بجميع تفاصيلها وأسرارها وأن لا يخلي الأرض من واحد منهم يكون حجة على أهل زمانه. كما جاء في الحديث النبوي قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون)(18).


هذا أهم ما اقتضته الحكمة الإلهية لبقاء الشريعة الإسلامية وحفظها، وهو وجود الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم )الموجودين في كل خلف من أمته وأئمتها ووفدها إلى الله تعالى، وهم الأئمة الاثنا عشر من أهل بيت نبيه (علي والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين)-عليهم السلام- جعلهم الله تعالى خلفاءً في أرضه وحججاً على عباده وحفظة لشريعته.


وإمام الحق في زماننا الآن هو الحجة المهدي-عجل الله فرجه- بن الحسن العسكري(عليه السلام) الغائب المنتظر، وهو موجود في الجماعة الإسلامية وبينها ولكنه لا يعرف بشخصه وعنوانه حتى يأذن الله له بالظهور.

وإمامة هؤلاء الأئمة وخلافتهم (عليهم الصلاة والسلام) لم تكن دعوى مجردة من الدليل، بل هي ثابتة لهم بالأدلة الإسلامية القاطعة، كتاباً وسنة وعقلاً وإجماعاً، وستقف على بعض تلك الأدلة في كتابنا هذا -إن شاء الله-، وتراها منتشرة في ألوف الكتب والمؤلفات لسائر المسلمين والحق ينطق منصفاً وعنيدا (20) والحق يعلو ولا يعلى عليه.

--------------------------------------------

1- تفسير المنار 9/225.

2- في الكافي 1/176: سئل أبو جعفر (الباقر) وأبو عبد الله (الصادق) -عليهما السلام- فقيل لكل منهما : جعلت فداك كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق وأنه من الملك ؟ قال -عليه السلام- : يوفق لذلك حتى يعرفه (أي حتى يعرفه حق المعرفة)، ولقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء.

3- شرح ابن أبي الحديد 3/250.

4- بحار الأنوار 18/277.

5- الكافي 1/174.

6- البحار 11/32.

7- مفاتيح الغيب 6/165.

8- الكافي.

9- إسماعيل صادق الوعد غير إسماعيل بن إبراهيم – راجع علل الشرائع 1/77.

10- عيون أخبار الرضا 2/80، وعلل الشرايع 1/122.

11- سورة البقرة: 106، ومعناها: (ما ننسخ من آية) بأن نرفع حكمها، (أو ننسها) بأن نمحو من القلوب رسمها، (نأت بخير منها) بما هو أعظم لثوابكم وأجلّ لصلاحكم (أو مثلها) من الصلاح، أي لا ننسخ ولا نبدل إلا وغرضنا في ذلك مصالحكم (أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير)، انظر تفسير القرآن للسيد عبد الله شبر ص 56.

12- حديث متفق عليه.

13- تجدها في كتاب (مكارم الأخلاق) لشيخنا الجليل رضي الدين أبي نصر الطبرسي من أعلام القرن السادس، من ص 519 – 536.

14- لبى سماحة آية الله السيد أبو القاسم الخوئي نداء ربه 

15- البيان في تفسير القرآن 1/28.

16- ذكر سماحته في الذيل محادثة جرت بينه وبين حبر من أحبار اليهود تتصل بهذا الموضوع – راجعها إذا شئت.

17- جميل قول الشيخ أبي حامد (الغزالي): (إن الشريعة أصل والملك حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما حارس له فضائع)، وملوك الشريعة في الحقيقة وحراسها بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) هم خلفاؤه الاثنا عشر، راجع قول الغزالي في كتاب (النظام السياسي في الإسلام) للشيخ باقر القرشي ص 11.

18- بعض مصادر هذا الحديث من طرق أهل السنة:


(الصواعق المحرقة) لابن حجر ص90 في الآية الرابعة من الآيات النازلة في أهل البيت -عليهم السلام-: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) [الصافات: 25].


الملا في سيرته – انظر (ذخائر العقبى) ص17 والمصدر السابق.

(ينابيع المودة) للقندوزي ص297 ,

(شرف النبوة) لأبي سعيد – انظر (الصواعق المحرقة) ص141.

(ذخائر العقبى) للطبري الشافعي ص17، رواه عن عمر أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين) – إلى آخر الحديث.

وهذا الحديث كما رواه السنة من طرقهم كذلك مروي عن أهل البيت عن طرقنا، وممن رواه من علمائنا الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين) 1/330 عن جعفر بن محمد (الصادق) عن آبائه -عليهم السلام- أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: (إن في كل خلف من أمتي عدلاً من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وإن أئمتكم وفودكم إلى الله عز وجل فانظروا من تقتدون في صلاتكم ودينكم).


19- الأبيات من قصيدة في السجاد وأهل البيت (عليهم السلام) للشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي– انظر كتاب (الإمام زين العابدين) للمقرم ص32.


20- قال ابن الجوزي ما نصه: (إن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل، عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه، فذلك قطب الدنيا) – مفكرة التقويم العربي الحديث لسنة 1968. في 21 كانون الثاني الموافق 20 شوال 1387، لصاحبها سامي الأعظمي.