يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قد يتخيل بعض الناس أن تشبيه الصوم المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا ، يوحي بأن الصوم عندنا وعندهم واحد ، من حيث وقته وعدد أيامه وخصوصياته وأوصافه ولكن ذلك مما لا تدل عليه الآية ولا يمكن استفادته منها ، لان التشبيه في قوله تعالى (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) إنما هو لبيان المشابهة في أصل تشريع الصوم فالله يريد أن يبين أن أصل الصوم الذي هو بمعنى الكف والإمساك الذي فُرض علينا قد فُرض على الذين من قبلنا، فالتشبيه وارد لبيان هذه الجهة، وليس لبيان كيفية الصوم ولا وقته ولا عدد أيامه ولا لبيان نوعية الأشخاص الذين فرض عليهم الصيام من الأمم السابقة .
إذاً أصل الصوم فرضه الله علينا نحن المسلمين كما فرضه على المؤمنين الذين كانوا من قبلنا من أتباع الشرائع السابقة. ولم يرد في القرآن الكريم شرح أو تفصيل عن طبيعة وخصوصيات الصوم الذي فرضه الله على السابقين في الشرائع السابقة. كما لم يعين القرآن الكريم الأشخاص أو الأمم الذين فرض عليهم الصيام من أتباع الديانات السابقة،فلم يبين القرآن من هم ؟ ولكننا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصمت فيما حدثنا الله به من قصة زكريا : (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا).وكما في قصة مريم عليها السلام : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا).ولا يوجد في التوراة والإنجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه وما هو موجود فيهما فيما يتعلق بالصيام إنما هو مدح للصوم وتعظيمه وليس فرضه وجوبه.
ولكننا نجد المؤمنين بهذين الكتابين من اليهود والنصارى يصومون أياماً معدودة في السنة بأشكال مختلفة ،فنجد لدى بعضهم نوعاً من الصوم الذي يمتنعون فيه عن الأكل والشرب في بعض أيام السنة ،ونجد لدى البعض الآخر نوعاً آخر من الصوم كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن في بعض أيام السنة .
كيف كان الصوم عند الأمم السابقة ؟!فالصوم عند اليهود مثلاً هو : الإمساك عن الأكل والشرب ولم يفرض عليهم إلا صوم يوم واحد في السنة كما ورد في عهد اللاويين . وكانوا في ذلك اليوم يلبسون المسوح أي الصوف وينثرون الرماد على رؤوسهم ويصرخون ويتضرعون وما شاكل ذلك من الممارسات التي كانوا يقومون بها أثناء الصوم في ذلك اليوم .وكان ذلك اليوم الذي يصومون فيه هو اليوم العاشر من الشهر السابع كما في عهد اللاويين. وكانت تسبق هذا اليوم تسعة أيام تسمى بأيام التوبة حيث كانوا يتطهرون فيها تطهيراً يكفل لهم النقاء والطهارة في خلال السنة القادمة.
وكان اليهود يصومون بعد ذلك في مناسبات حزينة معينة، فكانوا يصومون اليوم التاسع من الشهر الرابع من كل سنة حزناً بمناسبة استيلاء الكلدانيين على مدينة القدس، ويصومون اليوم العاشر من الشهر الخامس بمناسبة احتراق الهيكل، ويصومون اليوم الثالث من الشهر السابع لمصادفته ذكرى تخريب اورشليم ،ويصومون اليوم العاشر من الشهر العاشر وهو يوم الذي ابتدأ فيه حصار القدس.والخلاصة: إن اليهود يصومون يوما في السنة وجوبا ويصومون أياما أخرى في السنة بمناسبات مختلفة لأحزانهم ومآسيهم ، وقد كان الصوم عندهم من غروب الشمس إلى مساء اليوم التالي.
وأما النصارى : فالصوم مفروض وواجب عندهم في أوقات معينة وهو عند أكثرهم عبارة عن الامتناع عن الأكل من نصف الليل إلى ظهر اليوم التالي، فالصوم عند الكاثوليك هو الإمساك عن الطعام والشراب يومهم وليلهم ولا يأكلون إلا قرب المساء وإذا افطروا لا يشربون خمراً ولا يتأنقون في طعامهم . والصوم الواجب عندهم هو الصوم الكبير السابق لعيد الفصح، وأما الصوم المستحب عندهم فهو كثير كصوم يوم الأربعاء وهو اليوم الذي حكم فيه على السيد المسيح ، وكيوم الجمعة وهو اليوم الذي صلب فيه المسيح كما يقولون .وكذلك صوم الأيام الأربعة السابقة للميلاد ،وصوم يوم عيد انتقال السيدة العذراء ،هذا ما كان عليه الكاثوليك سابقاً ولكن جرت تغييرات في وجوب الصوم عندهم حتى صار صوم كثير من الأيام السابقة واجباً بدل أن يكون مستحباً، فمثلاً الآن يوجبون الصوم عن اللحم في يوم الجمعة إلا إذا صادف في هذا اليوم عيد من أعيادهم .
وأما الروم الأرثوذكس: فالصيام عندهم أكثر من الصيام عند غيرهم من المسيحيين ، فهم يصومون اليوم السابق لعيد الفصح ويصومون خمسة عشر يوماً قبل انتقال السيدة العذراء ويصومون أربعين يوما قبل الميلاد.
وأما البروتستانت: فالصوم عندهم سُنّة لا فرض واجب، وهو عندهم الإمساك عن الطعام مطلقا بخلاف سائر الطوائف المسيحية فان الصوم عندهم هو الكف عن بعض المأكولات كما ذكرنا.
وأما الأرمن والقبط: فهم يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منهما بين الفصح والصعود، ولهم أيضا عشرة أسابيع يصومونها كل سنة.
هذه خلاصة ما يمكن قوله بالنسبة إلى الصيام عند الأمم من أتباع الديانات السابقة. وبذلك نستطيع أن نجد لدى هؤلاء المنتسبين إلى هذه الديانات بالرغم من تحريف كتبهم الدينية شواهد على ما جاء في القرآن الكريم من فرض الصيام على الأمم السابقة (كما كتب غلى الذين من قبلكم).
إن هذا الاندفاع نحو هذه العبادة من قبل معظم أتباع الديانات السماوية وهذا الحب الكبير لها لدى جميع الأمم حتى الوثنية منها، إنما يدل على قيمة وفضل هذه العبادة وعلى أن الصوم من أهم الوسائل التي تتقرب من خلالها الإنسانية إلى الله ومن أعظم الطرق التي ينبغي أن يسلكها الإنسان لتهذيب نفسه والتحلي بالأخلاق والفضيلة والابتعاد عن الشهوات والرذيلة .