عندما نقول إنّ الاسلام دين الفطرة فهذا لا يعني أنّ كل حكم جزئيّ منه يوافقها، بل يعني أنّ الاُصول الكلّية في مجالي العقائد والشريعة، تنسجم مع الفطرة وتوحي إليها بشكل واضح، ولذلك كانت تعاليم الانبياء، وفي مقدَّمتهم الشريعة الاسلامية، تثير مكنون الفطرة، لذا فهم قبل أن يكونوا معلِّمين كانوا مذكِّرين بما أودع الله سبحانه في فطرة الانسان من ميولات نحوَ العبودية لله سبحانه، والانشداد إلى ما وراء الطبيعة، والجنوح إلى العدل ومكارم الاخلاق، والنفور عن الظلم ومساوئ العادات. فكأنَّ الفطرة أوّلُ مدرسة يتعلّم فيها الانسان أصولَ المعارف ومكارمَ الاخلاق وآدابها، من دون معلِّم، وهذا لطف وامتنان منه سبحانه لعباده ويعدّ الحجرَ الاساس لسائر الهدايات الالهية الواصلة إليهم عن طريق أنبيائه ورسله.
وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: "وَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ" (الروم/30) فإنّ المراد من الدين في الاية مجموع العقيدة والشريعة، كما فسّره به مشاهير المفسّرين، وكلمة (فِطْرَتَ اللهِ) التي نصبت على الاختصاص تفسير للدين، فالدين ـ بتمام معنى الكلمة ـ يوافق فطرة الانسان، بالمعنى الذي عرفت، أي أنّ أصوله وكلّياته تنسجم مع الفطرة وليست الاية وحيدة في بابها بل لها نظائر في الذكر الحكيم تؤكّد مضمونها، وتثبت بوضوح كون معرفة المحاسن والمساوئ والفجور والتقوى والميل إلى الفضائل، والانزجار عن الرذائل أمراً فطرياً إلى حدّ يقول سبحانه: "وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس/8) وفي آية أُخرى: "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ l وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ l وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" (البلد/8 ـ 10).
عندما نقول إنّ الاسلام دين الفطرة فهذا لا يعني أنّ كل حكم جزئيّ منه يوافقها، بل يعني أنّ الاُصول الكلّية في مجالي العقائد والشريعة، تنسجم مع الفطرة وتوحي إليها بشكل واضح، ولذلك كانت تعاليم الانبياء، وفي مقدَّمتهم الشريعة الاسلامية، تثير مكنون الفطرة،
فالانسان الطبيعي الذي لم يتأثّر بالمناهج البشرية، يدرك المحاسن والمساوئ، والفجور والتقوى والخير والشر، كرامة من الله سبحانه إليه.
ومن روائع الكلم ما روي عن الامام عليّ (عليه السلام) حول تحديد دعوة الانبياء وأنّ دورهم في مجال التربية تذكيرهم بمقتضيات الفطرة. يقول(عليه السلام): «فبعثَ الله فيهم رُسُلَه، وواتر إليهم أنبياءه، لِيستَأدوهم ميثاقَ فطرته ويُذكِّروهم منسيَّ نعمتِه، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقول» نهج البلاغة، الخطبة الاولى.
فالشرائع السماوية كأنّها تستنطِق الفطرة وتُذكِّر بالنعمة المنسية بفعل الاهواء والدعايات الباطلة، وقد أُمر حملتها بإثارة ما دفن في فطرة الانسان من جواهر المعقولات في مجالي العقيدة والشريعة.
وعلى ذلك فالشريعة ـ وفقَ الفطرة ـ مصباح ينير الدرب لكلّ ساع في طلب الحقّ. وكلّ فكرة أو ميل، توحي إليهما الفطرة فهو آية كونه حقّاً، وكلّ فكرة أو جنوح، يناقض الفطرة وترفضهما فهو آية كونه باطلاً. ولاجل ذلك تخلينا عن الرهبانية والتعزّب ووأْد البنين والبنات لانها تخالف مقتضى الفطرة.
إنّ البحث في كون الشريعة الالهية شريعة فطرية، يتطلّب مجالاً واسعاً لما يترتّب على البحث من نتائج مشرقة تعين على حل مشاكل أثارها خصوم الاسلام في مجال خاتمية الشريعة الاسلامية، حيث إنّهم يرفضون كون الدين ديناً خاتماً، بزعمهم أنّ الحياة الانسانية حياة متغيّرة ومتحوّلة فكيف يمكن تدبير المجتمع المتغيّر، بقوانين ثابتة جامدة؟
ولكنّهم لعدم معرفتهم بحقيقة الشريعة الاسلامية، غفلوا عن أمر هام، وهو أنّ المتغيّر في الحياة الانسانية هو القشر، لا اللبّ، وإلاّ فالانسان بما له من غرائز وميول علوية وسفلية لم يتغيّر ولن يتغيّر، وبهذه الميزة والخصوصية هو محكوم بالقوانين الثابتة.
فالانسان القديم كان يُحبُّ العدلَ وينفر من الظلم ويميل إلى الزواج والحياة الاجتماعية وهكذا الانسان في العصر الحاضر، إذن فالقانون في حقهما سواء وإن تغيّرت أجواء الحياة وقشورها ولباسها وظواهرها.