الوقف الحسن: تعريفه وحكمهقال ابن الأنباري: الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسنُ الابتداء بما بعده. [إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/150]وقال أبو عمرو الداني: اعلم أنَّ الوقف الحسن هو الذي يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لتعلقه به من جهة اللفظ والمعنى جميع. [المكتفي للداني ص 145]وتعريف المتأخرين له: هو الوقف على كلمة تعلّق ما بعدها بها أو بما قبلها لفظاً بشرط تمام الكلام عند تلك الكلمة. [القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 198]وينبغي أن يعلم أنّه يلزم من التعلّق في اللفظ التعلق في المعنى ولا عكس، أي لا يلزم من التعلّق في المعنى التعلّق في اللفظ، والمراد بالتعلّق اللفظي، التعلّق من جهة الإعراب، كأن يكون ما بعد اللفظ الذي يوقف شديد التعلق باللفظ أو بما قبله أو صفة له أو حالاً منه أو معطوفاً عليه أو مستثنى منه كما مرّ بنا، فهو رأس آية أو خلال آية.فإن كان خلال آية، يُحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، فيستحب لمن وقف عليه أن يبتدئ من الكلمة الموقوف عليها، فإن لم يفعل فلا إثم عليه، وقيل الابتداء به جائز.وأمّا إن كان رأس آية نحو قوله تعالى: ?الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? و?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? فوقفه حسنٌ أيضاً ويحسن الابتداء بما بعده لكون الموقوف عليه من رؤوس الآي، والوقف على رؤوس الآي سنّة جاء عن النبي محمد (ص) في حديث أم سلمة (ت: 62) (رض): إنَّ النبي (ص) كان إذا قرأ قَطَّعَ قراءته آية آية يقول ?بسم اللهِ الرحمن الرحيم? ثم يقف ثم يقول ?الْحَمْدُ ِللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? ثم يقف ثم يقول ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? ثم يقف ثم يقول: ?مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ? [وسائل الشيعة للحر العاملي (ت:1104 هـ) ج4 ص 865 ط. المكتبة الإسلامية الإيرانية طهران سنة 1367 هـ.ش.]. وروى هذا الحديث أبو داود (ت: 274) ساكتاً عليه والترمذي (ت: 279هـ) وأحمد (ت: 241هـ) وأبو عبيدة وغيرهم وهو حديث حسن ومسنده صحيح. [النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص 226] لقد استدل بعض العلماء وصِنفٌ من القرّاء بهذا الحديث على جواز الوقف في رؤوس الآي، وإن تعلق ما بعده به من جهة اللفظ والمعنى وسيكون لنا بحث نبيّن فيه آراء العلماء حول الوقف على رؤوس الآي.ومن أمثلة الوقف الحسن الوقف على كلمة ?الْمُؤْمِنُونَ? في قوله تعالى: ?... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ? (الروم/4)، فإنّ قوله تعالى ?بِنَصْرِ اللهِ ...? شديد التعلق بقوله ?يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ?، هذا مثال لشدّة التعلق، ومنه قوله تعالى: ?بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ ...? (الحديد/12) فإنّ جملة ?تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ? صفة لجنّات. ومنه قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ...? (الأحزاب/45) فإنّ قوله تعالى: ?شَاهِداً? حال من الضمير المفعول في ?أَرْسَلْنَاكَ?، ومن أمثلته قوله تعالى: ?اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ...? (الروم/11) فإنّ قوله تعالى: ?ثُمَّ يُعِيدُهُ? معطوف على ?يَبْدَأُ?، ومنه قوله تعالى: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ...? (الحجر/42) فإن قوله تعالى: ?... إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ? مستثنى من الضمير المجرور في ?عَلَيْهِمْ?. [أحكام القرآن للحصري ص 204]وسمّي هذا الوقف حسناً لأنّه يفهم معنى يحسن السكوت عليه. [القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 207] وحكمه: يحسن الوقف عليه ولكن لا يحسن الابتداء بما بعده نظراً للتعلّق اللفظي الإعرابي، فإذا وقف القارئ على لفظ من هذه الألفاظ أو ما ماثلها استحبّ له أن يصله بما بعده، وإلاّ كان ابتداؤه قبيحاً إذ أن الابتداء بما يتعلّق بما قبله لفظاً، قبيح اللهم إلاّ إذا كان اللفظ الذي يوقف عليه رأس آية، فإنه يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده مهما كان بينهما من تعلّق لفظي ومعنوي. [أحكام القراءة للحصري ص 205]أربع فوائد حول الوقف الحسن:1- قد يكون الوقف حسناً على تقدير وكافياً على آخر وتامّاً على غيرهما نحو قوله تعالى: ?هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ? إذ يجوز أن يكون حسناً إذا جعل ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ? نعتاً ?لِّلْمُتَّقِينَ? وأن يكون كافياً إذا جعل ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...? رفعاً بمعنى هم الذين يؤمنون بالغيب، أو نصباً بتقدير أعني ?الَّذِينَ ...? وأن يكون تاماً إذا جعل ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...? مبتدأ وخبره ?أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ?. [النشر في القراءات العشر لابن الجزري ج1 ص 229] 2- قد يكون الوقف حسناً والابتداء بما بعده قبيحاً نحو قوله تعالى: ?يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ?، فالوقف حسن والابتداء بـ ?وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبِّكُمْ ...? قبيح لفساد المعنى، إذ يَصيرُ تحذيراً عن الإيمان بالله تعالى. [ن. م. ص 230] 3- قد يتأكّد الوقف على الحسن لبيان المعنى المقصود كالوقف على قوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى? (البقرة /246) والابتداء بقوله ?إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ...? لئلا يوهم أنَّ العامل فيه ?أَلَمْ تَرَ ...? وقوله: ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِِّ? (المائدة/27) والابتداء بقوله: ?إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا?، ونحو قوله: ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ? (يونس/71) والابتداء بقوله: ?إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ...? وقوله تعالى: ?وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ? (الحجر/51) والابتداء بقوله: ?إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ ...? كلّ ذلك وما شابهه الزم السجاوندي (ت: 560هـ) بالوقف عليه لئلا يوهم أن العامل في ?إِذْ? الفعل المتقدم. وقد ذكروا الوقف على قوله تعالى: ?وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ? (الفتح/9) والابتداء بقوله ?وَتُسَبِّحُوهُ? لئلا يوهم اشتراك عود الضمير على شيء واحد فإنّ الضمير في الأوليَيْن عائد على النبي (ص) وفي الآخر عائد على الله عزّ وجلّ، ولذلك اختار البعض الوقف على ?وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ? (يوسف/27) والابتداء بـ ?وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ? إشعاراً بأن يوسف (ع) من الصادقين في دعواه. [ن. م. ص 333و 334] 4- من العلماء [ابن النحاس في كتابه القطع والائتناف والأنصاري في كتابه تلخيص المرشد في الوقف والابتداء والأشموني في كتابه منار الهدي] من يعتقد أنه إذا كان ما قبل الكلمة الموقوف عليها كلاماً يفيد فائدة تامّة وما بعدها جملة متعلّقة بها أو بما قبلها تعلقاً معنوياً، ومن جهة اللفظ لم يتعلق بما قبله على الراجح يعتبر (وقفاً حسناً) وإن تعلّق بما قبله على الراجح يسمّونه (وقفاً صالحاً) وإن استوى التعلّق ولم يكن فيه رجحان يسمّونه (وقفاً جائزاً) بمعنى أنَّ كلاً من الوقف والوصل جائز من غير رجحان لأحدهما على الآخر.فمثال الأول يعني الوقف الحسن، هو الوقف على كلمة ?وَبَرْقٌ? من قوله تعالى: ?أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ....? (البقرة/19) فجملة ?يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ....? فيها ثلاثة أَوجهٍ من الإعراب: الوجه الأول: أن تكون مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الجملة السابقة، كأن سائلاً قال: فما يصنعون إذا أصابتهم تلك الشدّة؟ فأجيب بقوله تعالى ?يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ....? . الوجه الثاني: أنّ لها موضعاً من الإعراب وهو الجرّ لأنها في موضع الصفة لـ « ذوي » المحذوف كأنه قيل «جاعلين».الوجه الثالث: أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو الهاء في ?فِيهِ?، والراجع على ذي الحال محذوف نابَتْ الألف واللام عنه والتقدير من صواعقه. [إملاء ما من به الرحمن للعكبري 1/22] نجد أن الراجح عند أكثر المحققين من المفسرين في إعراب تلك الجملة هو الوجه الأول فلا يتعين الوقف على كلمة ?وَبَرْقٌ? بل يجوز الوقف عليها وهو أولى، نظراً للوجه الأول الراجح ويجوز وصلها بما بعدها نظراً للوجه الثاني والثالث المرجوحَيْن.ومثال الثاني (الوقف الصالح) هو الوقف على كلمة ?وَعَصَيْنَا? في قوله تعالى ?قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ...? (البقرة/93) فجملة ?وَأُشْرِبُوا ...? فيها وجهان من الإعراب:الوجه الأول: أن تكون لها محل من الإعراب فيحتمل:أ: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل ?قَالُواْ? بتقدير «قد» عند البصريين ومن غير تقديرها عند الكوفيين.ب: أن تكون معطوفة على جملة ?قَالُواْ?.الوجه الثاني: أن تكون مستأنفة لا موضع لها من الإعراب جيء بها لمجرد الإخبار بذلك ولكن هذا الوجه ضعّفه النحوي الكبير أبو البقاء العكبري، وعلّل ضعفه بأن قوله تعالى: ?قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكُمْ ...? جواب لقولهم ?سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا? فيحسن أن لا يكون بينهما أجنبي، فحينئذ يحسن وصل ?وَعَصَيْنَا? بما بعدها نظراً للاحتمالَيْن الأوليَيْن في الوجه الأول ويجوز الوقف عليها نظراً لوجه الاستئناف وإن كان ضعيفاً.ومثال الثالث (الوقف الجائز) هو الوقف على كلمة ?الْعَذَابِ? في قوله تعالى: ?يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ? (البقرة/49) وذلك أن جملة ?يُذَبِّحُونَ ...? بعده، يحتمل فيها:أ: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل ?يَسُومُونَكُمْ?.ب: أن تكون استئنافية لا موضع لها من الإعراب، وقعت جواباً عن سؤال نشأ في جملة ?يَسُومُونَكُمْ? كأن سائلاً قال: ما الذي ساموهم إيّاه؟ فأجيب بقوله تعالى ?يُذَبِّحُونَ? ولا مرجّح لأحد هذَيْن الوجهَيْن على الآخر بل هما سواء.فالوجه المشترك بين الوقف الحسن والصالح والجائز عندهم هو أنّ الكلام قبلها أفاد فائدة يحسن السكوت عليه، وما بعدها جملة متعلقة بما قبلها في المعنى وأما في اللفظ ففي (الحسن) لا تعلق على الراجح وأمّا في (الصالح) فالتعلّق اللفظي راجح وأمّا في (الجائز) فيستوي الوجهان. [معالم الاهتداء للحصري - بتصرف ص 31 -38].