مذاهب العلماء في الوقف على رؤوس الآيإنَّ رأس الآية، هو آخر كلمة فيها نحو: ?الْعَالَمِينَ? (الحمد/1) و ?الْمُفْلِحُونَ? (البقرة/5) و ?عَظِيمٌ? (البقرة/7) و ?حَدِيثاً? (النساء/42) وهكذا ...وقد اختلف علماء الإسلام في الوقف على رؤوس الآي على أربعة مذاهب:المذهب الأول:جواز الوقف عليها والابتداء بما بعدها مطلقاً، مهما اشتدّ تعلّقها بما بعدها وتعلق ما بعدها بها كالوقف على قوله ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ? (الحجر/92) والابتداء بقوله تعالى ?عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? (الحجر/93) وعلى قوله تعالى: ?أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى?، والابتداء بقوله ?عَبْداً إذَا صَلَّى? (العلق/9)، حتى ولو كان الوقف عليه يؤدّي إلى معنى فاسد كالوقف على ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ? (الماعون/4)، أو كان الوقف على رأس الآية سائغاً ولكن الابتداء بما بعدها يفضي إلى معنى باطل كالوقف على ?أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ? (الصافات /151) والابتداء بقوله ?وَلَدَ اللهُ? (آية/152) فالوقف على رؤوس الآي على هذا المذهب سائغ مطلقاً مهما كان مِن تعلّقٍ ومهما ترتّب عليه من فساد في المعنى، وقد اختار هذا المذهب الإمام الحافظ أبو بكر أحمد البيهقي (ت: 458هـ) في كتابه شعب الإيمان وكذا غيره من العلماء، واشتهر هذا المذهب عن أكثر أهل الأداء. [معالم الاهتداء للحصري ص 51]ويعتبر أصحاب هذا المذهب الوقف على رؤوس الآي مطلقاً سنّة يُثاب القارئ على فعلها، واستدلّوا لمذهبهم بما روي عن أم سلمة زوج النبي (ص) أنها قالت: كان رسول الله (ص) إذا قرأ يقطع قراءته آية آية يقول: ?بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?، ثم يقف ثم يقول ?الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?، ثم يقف ثم يقول ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? ... ووجه الدلالة عندهم أن رسول الله (ص) قد وقف على ?الْعَالَمِينَ? وعلى ?الرَّحِيمِ?، ففصل بين الموصوف وصفاته مع ما بينهما من وثيق الصلة، وقال بعضهم الأفضل الوقف على رؤوس الآيات وإن تعلّقت بما بعدها، إذ اتباع هدى رسول الله (ص) وسنته أولى، واستدلوا أيضاً بأن رؤوس الآي بمنزلة فواصل السجع في النثر، وبمنزلة القوافي في الشعر من حيث أنها محال الوقف. [ن.م. ص 52]المذهب الثاني:جواز الوقف على رؤوس الآي والابتداء بما بعدها إن لم يكن ارتباط لفظي بينها وبين ما بعدها، أو لم يكن في الوقف عليها أو الابتداء بما بعدها إيهام خلاف المراد، فإن كان هناك ارتباط لفظي بين رأس الآية وبين ما بعده نحو: ?أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ? (المطففين/4)، فإنه يجوز للقارئ أن يقف عليه عملاً بحديث أم سلمة (رض) السابق، ولكن ينبغي له أن يرجع فَيَصله بما بعده وهو ?لِيَوْمٍ عَظِيمٍ? مراعاة للتعلق اللفظي وحينذاك يكون قد جمع بين العمل بالحديث وملاحظة التعلّق اللفظي، وإذا كان الوقف على رأس الآية صحيحاً لا يوهم شيئاً لكن الابتداء بما بعده يوهم معنى فاسداً كالوقف على ?أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ? (الصافات/151) والبدء بقوله تعالى: ?وَلَدَ اللهُ?، فإنه يجوز للقارئ الوقف على رأس الآية عملاً بالحديث، ولكنّه بعد الوقف على رأس الآية يتعيّن عليه أن يرجع فيصله بما بعده دفعاً لتوهم المعنى الباطل وتنبيهاً على المعنى المراد، وأما إذا كان الوقف على رأس الآية يوهم معنى فاسداً كالوقف على ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ?، فلا يجوز الوقف عليه حينئذٍ بل يتعيّن وصله بما بعده دفعاً لتوهم المعنى الفاسد ومسارعة إلى بيان المعنى المقصود. [المكتفي للداني ص 146]المذهب الثالث:جواز السكت بلا تنفس على رأس كل آية بناءً على أن السكت يجوز في رؤوس الآي مطلقاً سواء صحّت الرواية به أم لا، حال الوصل لقصد البيان أي بيان أنها رؤوس الآي.ومستند أصحاب هذا المذهب هو المنقول عن أبي عمرو بن العلاء البصري، أنّه كان يسكت على رأس كلّ آية وكان يقول: إنّه أحبّ إليّ إذا كان رأس آية أن يُسْكَت عنده. [معالم الاهتداء للحصري ص 53]إنّ المرويّ عن أبي عمرو لا يصلح سنداً لصحة مذهبهم، لأن القدامى كثيراً ما كانوا يذكرون لفظي السكت والقطع ويريدون بهما الوقف، فالقطع والسكت والوقف كانت عندهم بمعنى واحد، ولم يفرق بين معاني هذه الألفاظ الثلاثة إلاّ المتأخرون كما مرّ بنا.وبناءً على هذا يكون المراد بالسكت في هذا الأثر الوقف، فلا يكون فيه دليل لهذا المذهب وحمل الوقف في حديث أم سلمة على السكت خلاف الظاهر، فلهذا كان هذا المذهب في غاية الضعف عند عامة القرّاء وأهل الأداء. [نيل الأوطار للشوكاني (ت: 1255هـ) ج2 ص 206ط. دار الجيل بيروت / لبنان الطبعة الأولي 1412هـ - 1992م]المذهب الرابع:أنّ حكم الوقف على رؤوس الآيات كحكمه على غيرها ممّا ليس برأس آية، فحينئذٍ ينظر إلى ما بعد رأس الآية من حيث التعلق وعدمه، فإن كان له تعلّق لفظي برأس الآية فلا يجوز الوقف على رأس الآية، وإن لم يكن له به تعلق لفظي جاز الوقف، فليس ثَمّ فرق بين رأس الآية وغيره من حيث الوقف وعدمه، ولهذا وضع أصحاب هذا المذهب علامات الوقف المختلفة فوق رؤوس الآي كما وضعوها فوق غيرها ممّا ليس برأس آية.وهذا مذهب بعض علماء الوقف كالإمام أبي عبد الله محمد بن طيفور السجاوندي (ت: 560 هـ)، والعلامة الشيخ أبي محمد الحسن بن علي بن سعيد العماني، والعلامة المحقق شيخ الإسلام الشيخ زكريا الأنصاري (ت: 926هـ)، والشيخ الجليل أحمد بن عبد الكريم الأشموني وقد أجاب أصحاب المذهب الأخير عن حديث أم سلمة (رض) بجوابين:الجواب الأول:إنّ سند حديث أم سلمة غير متصل، « وقد أعلّ الطحاوي الخبر بالانقطاع فقال: لم يسمعه ابن أبي مليكة من أم سلمة، واستدل على ذلك برواية الليث عن ابن أبي مليكة عن يعلي بن مملك عن أم سلمة، ولكن قال ابن حجر: وهذا الذي أعلّ به ليس بعلّة فقد رواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن أم سلمة بلا واسطة وصحّحه ورجّحه على الإسناد الذي فيه يعلي بن مملك ». [نهاية القول المفيد لمحمد مكي نصر ص 208]الجواب الثاني:إنّ مقصود الرسول (ص) من الوقف على رؤوس الآي بيان جواز الوقف عليها وتعليم الصحابة الفواصل، قال المحقق الجعبري (ت: 732هـ): « إنّ الاستدلال بهذا الحديث على سنيّة وقف الفواصل لا دلالة فيه على ذلك، لأنّه إنّما قصد به إعلام الفواصل، قال: وجهل قوم هذا المعنى وسمّوه وقف السنّة إذ لا يسنّ إلا ما فعله النبي (ص) تعبّداً ولكن هو وقف بيان». [ن.م. ص 209]وينقل صاحب نهاية القول المفيد عن الحافظ العسقلاني: «أنه تعقب الاستدلال بالحديث على سنيّة الوقف على رؤوس الآي».ثم قال الحافظ: « والأظهر أنّه عليه الصلاة والسلام إنّما كان يقف ليبين للمستمعين رؤوس الآي، ولو لم يكن لهذا لما وقف على ? الْعَالَمِينَ ? ولا على ? الرَّحِيمِ ? لما في الوقف عليهما من قطع الصفة عن الموصوف ولا يخفى ما في ذلك ». [الجامع الصحيح للترمذي (ت: 297هـ) ج6 ص 182 تحقيق أحمد محمد شاكر، دارالمكتبة الإسلامية بيروت/ لبنان - جمال القرّاء وكمال الإقراء للإمام علم الدين السخاوي (ت: 643هـ ) ج 2 ص 380 تحقيق د. عبد الكريم الزبيدي ط. دار البلاغة بيروت لبنان الطبعة الأولي 1412هـ - 1993م.]فخلاصة المذهب الرابع هو أن حكم الوقف عليها كحكم الوقف على غيرها مما ليس رأس آية.الرأي الراجح في الوقف على رؤوس الآي:كانت هذه آراء العلماء حول الوقف على رؤوس الآي والابتداء منها، وأرجح هذه المذاهب على ما أعتقد هو المذهب الثاني، لأنّ تعيين الآيات من كل سورة من قبل النبي (ص) له جانبه البلاغي وأثره الإعجازي بُحِث في كتب علوم القرآن مفصلاً، وأن قراءة النبي (ص) هي القدوة لنا والأسوة، فقد جاء في الأثر روايتان عن زوجة الرسول (ص) أم سلمة رحمة الله عليها عن كيفية قراءة النبي (ص): إحداهما مرويّة عن ابن جريح عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة (رض) أن النبي (ص) كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول: ?بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? ثم يقف فيقول ?الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? ثم يقف فيقول ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? ثم يقف و... هكذا.وقد مرّت هذه الرواية في بحث «الوقف الحسن».وهناك رواية أخرى مروية عن الليث بن سعد عن ابن أبي مُلَيْكة عن يعلي بن مَملك أنه سأل أم سلمة (رض) عن قراءة رسول الله (ص) وصلاته فقالت: فما لكم وصلاته ؟ كان يصلي ثم ينام قدر ما صلّى ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلّى حتى يصبح ثم نعتت لَهُ قراءته مفسّرة حرفاً حرفاً. ذكر ذلك الترمذي. [الجامع الصحيح للترمذي (ت: 297هـ) ج5 ص182 - تحقيق أحمد محمد شاكر- دار المكتبة الإسلامية - بيروت - لبنان - وجمال القرّاء وكمال الإقراء للإمام علم الدين السخاوي (ت: 643 هـ) ج2 ص 380، تحقيق د. عبد الكريم الزبيدي- ط. دار البلاغة بيروت / لبنان - الطبعة الأولى 1412هـ - 1993م.]ففي الحديث الأول تصف أم سلمة (رض) النبي (ص) بأنّه كان يقطع قراءته آية آية وفي الحديث الثاني نعتت قراءته بأنها كانت مفسّرة حرفاً حرفاً.ويمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي (ص) كان تارة يقف على كل فاصلة (آخر آية) ولَوْ لم يتم المعنى بياناً لرؤوس الآي، وكان تارة يتبع في الوقف تمام المعنى فلا يلتزم أن يقف على رؤوس الآية لتكون قراءته مفسّرة حرفاً حرفاً وعلى هذا يمكن أن يقال: حيثما كان الناس في حاجة إلى بيان الآيات حَسُنَ الوقف على رؤوس الآي ولَوْ لم يتمّ المعنى، وحيثما كان الناس في غنًى من معرفة رؤوس الآي لم يحسن الوقف إلاّ حيث يتم المعنى. [مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج ص 239 دار الفكر للطباعة والنشر بيروت/ لبنان الطبعة الأولي 1416هـ - 1996م.]