أ.د. سناء ساجت هداب
إذا كان مفهوم العالمية (كوزموبوليتانية) يعنى نظرية وحدة الجنس البشري، وهو بوابه لتكريس العولمة ثقافة وانشطة، بحسب ما أنتج فكر القرن العشرين ( ينظر المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، دكتور عبد المهم الحفني: مادة كوزموبوليتانية.)، فإن ذلك المفهوم وتمثيله العملي قد جرى تثبيت أركانه في أكثر من لحظة تاريخية فارقة، ولعل أبرزها اللحظة الكونية، التي نزل فيها القرآن الكريم، وقد شمل خطابه الكونيةَ والعالميةَ نهجا ودعوة واعتبارا. فنزول القرآن محدد تاريخيا ببعثة النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، وتكوينا بمشيئة الله تعالى باتمامه واظهاره وتنامي أسراره، التي لا تحد ببعد زمني، ما دامت مقترنة بعلم الله تعالى ومشيئته. وهذه الدعوة التي تتضمن الكشف الشامل عن جوهر الحياة الانسانية، إنما هي علامة من علامات الاعجاز القرأني وسمو مرتبته، من حيث كونه كتابا جامعا ودستورا لحياة راشدة ومصير خالد.
ويسعفنا في إدراك الأثر العالمي للخطاب القرآني، وتنامي حضوره واتساع مجال احاطته والايمان به، ما ورد عن النبي الاعظم محمد (صلى الله عليه وآله) في قوله : "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وليس من عجب أن يكون القرآن دليل من يلتمس نهج السعادة على الاطلاق، سواء أكان ممن يتعاطى لغويا واعتقادا بالنص القرآني أم كان خارج تلك الدائرة المباركة، في قول من حمل أرهف قدرة على استيعاب أسراره، بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وهو أمير المؤمنين الامام علي (صلوات الله عليه)، إذ يقول مستغرقا في وصف القرآن الكريم داعيا للتمسك به: "عليكم بكتاب الله فانه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد، وولوج السمع من قال به صدق، ومن عمل به سبق.." (شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: ج 9: 203.)، مما يدل على إن من استمع الى الخطاب القرآني وتتبع آثاره، وسار على هديه، أيّا كان، والى أي حضارة انتسب، ستتحقق له تلك الآثار التي تحققت ظاهرا وباطنا، لأن تلكم الطرق لا تقتصر على ذوات أو أزمان أو أماكن دون غيرها .
وليست العالمية صفة حضرت في القرآن الكريم منفردا؛ لأن ما اختاره الله تعالى للبشرية قد تكثف حضوره في القرآن الكريم، وإن تمخض عن تجارب سابقة لم يُرد لها الله تعالى الا الاستقامة على دين جامع: " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" (سورة آل عمران، الآية:19.)، إذ حملت تلكم الكتب الالهية، المنزلة على الانبياء عليهم السلام،علامات البعد العالمي، لكنها تكاثفت وتآزرت لتكون طيَّ عظمة القرآن الكريم، بصفته الكتاب الخاتم والجوهر الجامع، المستبطن لكونية اختيار الله تعالى للانسانية دينَهم الذي ارتضاه: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا" (سورة المائدة: الآية 3.). وليس بمستغرب، بعد اشتمال الوعي على اللحظات الدينية التي هدى بها الله تعالى الخلق ببعث الانبياء والرسل، أن يلتزم الرواقيون الانتساب الى البعد العالمي والنوع الانساني، في مقابل من انتمى الى البعد القومي أو الوطني، حتى سمّوا أنفسهم (المواطنين العالميين) ( ينظر المعجم الفلسفي، الدكتور جميل صليبا، الجزء الثاني: مادة العالم .) .
ولعل أجلى خصوصية أكدها الخطاب القراني دقته المتناهية في اختصاص الدلالة وانطباق ناتجها القصدي على الدوال . فعلى الرغم من أنه خطاب لغوي فهو أشبه ببحر تتعانق أمواجه وتتداخل، بوصفه خلاصة أشكال القول السابقة، ويتناول خطابه ما في الطبيعة وما وراءها، حاملا خاتمة الرسالات النبوية وخاتم الكلام، فهو الكتاب الشامل، الذي كان، ولا يزال، معينا للشعر والفكر ومفهوما متفردا للانسان والكون، ومنهجا للنظر في الاخلاق والموت والحب وغيرها من شؤون الوجود ( ينظر النص القرآني وآفاق الكتابة، أدونيس، دار الأداب: 48 – 49.). ومن تلك الدقة ما خص به البعد الكوني من وصف (العالمين)، والبعد العالمي الانساني، بـ(الناس)، فضلا عن (الانسان) بدلالته على النوع، المنتزع من الصفات المعيارية لوجوده، وفي الخطاب الموجه، نجد الخصوصية الاسلامية فيمن يوجب اليهم الالتزام بالشريعة الاسلامية، متحققا بالمؤمنين ( يا أيها الذين آمنوا)، في حين نجد ما يتسع شأنه متسقا مع ما يدل على العموم: ( أيها الناس)، ( ايها الانسان). وتتجلى عظمة الرحمة الالهية في التعاطي على نحو التوجيه والوعظ للعموم من غير المؤمنين بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، ويختص الوجوب (بالذين آمنوا) المسؤولين عن وجوب الامر الالهي والصدع به من الرسول (صلى الله عليه وآله).
وتمكينا لشمول قدرة الله تعالى، وبديع خلقه، لا يضاف ما يدل على ذاته جل وعلا، بوصفه الرب للمؤمنين؛ لدلالته على الخصوص لا العموم، في حين تجب الاضافة للعموم على ما خرج عن مدار الخصوص الى الشمول، إذ يرد في الخطاب االقراني، وصف (ربّ العالمين) لشمول ربوبيته، وكمال صنعه الأكوانَ والمخلوقات جمعاء. و( إله الناس) لشمول ألوهيته جنس البشر. ولا نجد وصف ( رب المؤمنين)؛ لاقتصار فئة المؤمنين على ما يقع عليهم وجوب التشريع، لا ما يقع تحت اتساع شمول قدرته، من بقية الخلق الذين اتسعت لهم رحمته ليشملوا بالكليات من دون تخصيص الاتباع في الاوامر والنواهي، التي تجب على المؤمنين. ولعل من أعظم ما كرّم به الله تعالى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أرساله رحمة للأكون:"وَمَا أَرسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(سورة الانبياء، الآية:107.)، حيث تتمثل الرحمة الالهية بمبعوث للخلق كافة، تبجيلا لقدره، ومعرفةً بخصوصية سموه من بين المخلوقات .
وإن كان مفهوم العالمية قد اتضح حضورا فيما ينطوي عليه الخطاب القراني من سمات، فلا ينفك التحديد يقتضي الاقتراب أكثر من تمثله في ذلك الخطاب: فما الشروط التي حددها الخطاب القراني للعالمية ؟ وما النهج الذي ارتضاه الله تعالى للانسان وفق المعيار العالمي ؟ وهل تتضمن العالمية أدلجة تعلي من شأن قوة غالبة، أو ثقافة مهيمنة؟!
شروط العالمية في الخطاب القرأني:
1- الشمولية: لعل من أهم الحدود، التي ميز فيها القران الكريم عالمية خطابه، الشمولية التي تضع المقصودين بخطابه العالمي ضمن حدودها، حيث الكلية التي لا جزئية فيها ولا تمييز. فالمخاطب شامل والخطاب عام، والمدلول واسع، والمصداق مستمر. ومما ينتقى امتثالا للنمذجة لا للحصر قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ، وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " (سورة النساء، الآية 1.)، فالخطاب موجه للنوع الانساني من دون تمييز ( يا أيها الناس) ولم يخصص، ولم يستثن ذاتا أو جماعة. والأمر بالتقوى شامل غير مجزّأ أو مغلق على مقصدود. ويشير الخلق الى عمومية الوصف، المنطبق على عامة من ينتمي الى نوع الانسان ( خلقكم من نفس واحدة)، وقيام التكوين البشري على الذكر والأنثى المنتجين والمكثرين للنوع البشري: ( خلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) .
2- العقل: لم يسلب القرآن الكريم صفة الاستعداد العقلي لتلقي الامر الالهي والاستجابة للموعظة الحسنة، وإن اختلفت الاستجابة من فئة الى أخرى، ويدل الخطاب القراني على الشمولية في المخاطبة على نحو يقتضي العالمية، التي تميز الانسان، بوصفه نوعا، من بقية الكائنات بنعمة العقل " يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً " (سورة النساء، الآية 174.)، فلم يقتصر البرهان على تلقي عقول دون أخرى تذعن لحتمية اقناعه، فضلا عن دعمها بما يمثل حجة بالغة التأثير، ولا محيص من الاذعان لوضوحها (نورا مبينا) . ولا يخفى العرض العقلي الشامل، على كل ذي قدرة على التفكير والتدبّر، في قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ" (سورة الحج: آية 73.)، فلا يقف المثل المنتزع من الحياة بتفاصيلها اليومية عند حدود ضرب المثل، وإنما ينطوى على أكثر من مغزى عميق، سواء تعلق بخصوصية ما ضرب مثلا أم بما عُدَّ كناية للتعبير عنه من غرور الانسان وجهله بأبسط المظاهر التي تحيط به .
ويقدم الفعل الحجاجي للبرهنة على الاستعداد العقلي الى ضرورة ادراك الحجج الواضحة، في قوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " (سورة الحج، الآية: 5.)، إذ تم ابراز الشك في البعث باعتباره أمرا مغيبا عن الحدوث عيانا في الحياة الدنيا، وصورة نمطية للتفكير الارتيابي؛ لتكريس معالجة الميل المكتسب بمؤثرات ظرفية أو دعوات ومثيرات خارجية للتشكيك، الذي يدعم فيه الخطابُ القراني القرائنَ ذات النمط العقلي المجرد بما هو محسوس، ومستمر الحدوث، معيش في الحياة الانسانية، متمثلا بما هو حاصل حادث في التجربة الانسانية في تدرج حياة الانسان من التراب فـالنطفة، مرورا بمراحل الحياة البشرية، وانتهاء بالممات . وقد مر بنا للتمييز على اساس أن جزاء العمل من جنسه: ما جاء في ثابت: (ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير) .
3- المساواة: انطلاقا من الشمولية وتوافر مجسات العقل فقد حسم الخطاب القراني دلالة المساواة في المناداة والصفات والأمر، فضلا عن الكشف المؤدي الى سعادة عامة لا خاصة، ولاسيما في قوله تعالى: " يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون" (سورة البقرة، الآية 21.)، فالمناداة شاملة وأمر العبادة يأتي على نحو المساواة في توجيه الخطاب، ووجوب اتباع الامر لنيل الهداية لا أمر التكوين،وإلا تحقق لزاما. ولا تجب العبادة على فئة دون اخرى: (يا ايها الناس اعبدوا ربكم)، انطلاقا من عموم معيار الخلق، لذا لم يستثن أحد، من خلقه تعالى: (الذي خلقكم والذين من قبلكم)؛ ولكن التخصيص يتحقق بتدبل الصفة كقوله تعالى :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " ( سورة يونس، الاية: 57.)، فالموعظة جاءت لجميع الناس من دون استثناء، أما الوعد بالرحمة بعد اتمام نعمة الهداية، فقد اختص به المؤمنون دون سواهم (وهدى ورحمة للمؤمنين) . فهل يتم ذلك على وفق المساواة والعدالة في الخطاب والأثر بين البشرية جمعاء؟ والإجابة تكشف عنها الآية من دون عقبة في الفهم والادراك. فكل ما قد اجزل فيه الباري عز وجل العطاء للناس جاء على نحو المساواة (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور)، لكن تحقق الأثر لدى فئة دون أخرى كان ناتج الاستجابة الذي أثمر الجزاء لتلك الفئة (المؤمنين)، التي جوزيت على نحو المكافئة على العمل بالهداية والرحمة. ومن ذلك التمييز على اساس التخيير، لا الجبر أو التمييز غير المقترن بفعل من المكلف، قوله تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ " (سورة يونس، الآية: 108).
أما النهج الذي تقتضيه عالمية الخطاب القراني، فهو الهداية التي تنسجم ومقصد الحكمة الالهية لارشاد الخلق من بني البشر، وتحقيق الاهداف التي تضمن سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأهم أركان تلك الهداية :
1- الايمان بالله تعالى: وهو المبدأ الرئيس الذي تقتضية سنن الخلق، ويتمثل في انسجام الخلق مع الغاية الالهية المبينة لتجلي قدرته على الخلق والحكمة وجلال التدبير:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ( سورة الذاريات، الآية:56.)، وذلك غير محصور في صفة ايمانية أو نزعها، وثمة سبب رئيس يقتضي الالتفات الى الصلة بالله تعالى على نحو العبودية وهو الافتقار اليه تكوينا وتسديدا وتمكينا في كل شؤون الحياة، وما بعدها: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " (سورة فاطر، آية: 15.)
2- الايمان بنبوة الرسول وصدق تبليغه عن الله تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " (سورة النسا، الآية: 170.)، فاستلزام إرسال الرسول للحق يوجب الاستجابة والاتّباع؛ لأن الايمان مقترن بالخير، وتجنب الوقوع في اتون الباطل حيث لا يجد المعاندون سوى وصف مجال الكفر مقابلا للايمان، وما يستوجب من مواجهة، مع التذكير بغنى الله تعالى عن تلك الاستجابة التي لا يفيد منها الا الخلق، وهي من تجليات الرحمة والرأفة بالعباد، ما دامت الاكوان في قبضته .
3- الاعتدال في الحياة البشرية: ينبثق الاعتدال من مبدأ التوازن، الذي يكفل الاستقرار، في الفعل ورد الفعل من دون تفريط أو إفراط، وذلك انتقاء لمسلك يقوم على نبذ التطرف في الحياة والتعامل معها من موقع اكراه الذات على ما تعتدل به طبيعتها، أو التعامل مع الاخر بناء على الاستسلام لنوازعها، أو اجبارها على مفارقة فطرتها المرتبطة بالارض، وانتحاء السلوك المنسجم مع متطلبات الجسد، ولكن تلك الاستجابة رهينة الاعتدال والتزكية، التي تنحو منحى المبدأية الممكنة، ومصداق ذلك قوله تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَقَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا " (سورة الشمس، الآيات: 7، 8، 9، 10)، فعلى الرغم من إبراز استعداد النفس فطريا الى الانحراف أو الاعتدال، فإن السلوك القويم للفرد والمجتمع أن يكون التزكية لا التدسية، ميدانا لحتمية تمثل البنية النامية، لا الهادمة المقوضة، مادام مدار الاتجاه بين القطبين، لا يقف عند منطقة وسطى، بين التطهير والاصلاح، أو الاغواء والضلال . فهل الميل الى قطب يمثل انحيازا في الرؤية القرانية ؟!
ولعل ما يوهم بالانحياز فقدان الحد الوسط بين هذين الخيارين المتباعدين سوكا وقيمة. ولكن الخطاب الشامل، والمرأى الكلي للقرآن الكريم يوقف تدفق تلك الشبهة، ولاسيما في قوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"(سورة البقرة، الآية/ 143.)، بتبنيه خيار الوسطية الراشدة، حيث شهادة من يكون في موقع الوسط، واشرافه على ما يقع دون درجته، أو بإزائه، ويترقى هذا الاشراف الى رأس هرمية الاعتدال والعدالة، متمثلا بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه من أهل بيته (صلوات الله عليهم).
ومن نماذج الدعوة العالمية في الخطاب القراني للاعتدال، في ضبط شؤون الحياة تربوييا، وصحيا واقتصاديا، مقترنا برضا الله، ما جاء في قوله تعالى" يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ ( سورة الأعراف، الاية : 31.)، حيث ينعدم مجال الشك في الخروج من حتمية الاذعان ليقينية مراعاة مصالح البشر في اختيار حياة معتدلة متوازنة لهم، ولم تقدم أية نظرية وضعت لتحقيق سعادة بشرية نامية، ما يتجاوز هذا القانون المتوازن، مهما أوتيت من قدرةِ ابتكار .
4- التقوى: لم تخرج حدود الخطاب القراني في بعده العام، المكرس لعالميته عن ضرورة اتصاف الخلق بتقوى الله تعالى، لنيل التفضيل الالهي، المنسجم مع هدف خلق الانسان والرحمة به، والتكريم الذي يليق به:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " ( سورة الحجرات، الآية: 13)، فالشرطان للسعادة يؤكدان مبدئين لعالمية الخطاب القراني: أحدهما التعايش الانساني والتكامل الاجتماعي (لتعارفوا)، وتتويج ذلك بالسير في تلكم العلاقة على وفق ما تقتضيه تقوى الله تعالى، حيث مضمار التفضيل درجة التقوى بعد حصول نوعها (أكرمكم = أتقاكم) .
يتضح مما مر أن استيعاب الخطاب القرآني موجه للناس أجمعين، لا يحده في ذلك انتماء ولا زمان ولا مكان، لأنه مقترن بهدف الهداية التي تتحقق فيها سعادة الدارين في الدنيا والآخرة، ولا تنطوي على ميل لحساب ناقص، أو خارج عن علاقة الانسان بربه، وهذا ما يجعل عالمية الخطاب القرآني أكثر شمولية من كل دعوة عالمية، سواء أكانت ليبرالية تؤدي الى حرية منفلتة، كما في رأسمالية الغرب القديمة والحديثة، أو ما حاولت فرضه الماركسية حين طبقها الشيوعيون، إذ أقرت فلسفة التاريخ في الماركسية " أن تحقيق قيم الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة ليس أمرا يعود الى الاخلاق وانما هو أمر يرجع الى العلاقة بالطبيعة (الانتاج) التي تتحد فيها وبها العلاقة بين الناس" ( تجاوز الماركسية الى النظرية النقدية، د. هشام عمر النور، دار رؤية للنشر والتوزيع :180.)، ولا نكاد نجد، على الرغم من محاولة الماركسية الحديثة الاقتران بقيم الديمقراطية ومراعاة الحريات، ما يجعلها تسمو بالبعد المعنوي لحياة الانسان، لأنها جرّدت مساراته من الاقتران بالاخلاق، وعملت على تشييئه وفق قيم مادية صرف، حين ربطت سلوكه وأنشطته بعوامل الانتاج، الأمر الذي كان مختلفا إسلاميا، حيث حرر الخطاب القرآني فيه البشر من عبودية المادة الى حرية العبودية للخالق الذي لا يُدرك بالمادة، ويدعو الى الهداية وإعلاء قيم الاخلاق القويمة، التي يسعد بانتشارها الانسان على الأرض، إذ لا تختم بها رحلته أو تنتهي، وإنما تكتمل مسيرته بمصيره المنتظر في المضمار الأخروي العادل .