الشيخ خيرالدين الهادي
ليلة أخرى؛ لكنها ليست كباقي الليالي, ففيها تتوافد قوافل الصائمين للإعلان عن مسيرة جديدة بعد شحنة إيمانية عظيم من مدرسة رمضان المتجدد عاماً بعد عام, وهذه المسيرة ميزت الناس إلى أصناف كثيرة تباينت مقاماتهم بحسب حسن تعاملهم مع الشهر الفضيل, فمن قصَّر فقد فاته من الخير ما لا يعلمه إلا الله, ومن استثمر الشهر فقد استحق الفوز بالعيد وما فيه من الكرامات, والثابت أن القرآن الكريم عنى بهذه المناسبة وذكرها بصريح العبارة, إذ قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام : ((قَالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِّنَ السمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوّلِنَا وَ ءَاخِرِنَا وَ ءَايَةً مِّنك وَ ارْزُقْنَا وَ أَنت خَيرُ الرّزِقِينَ)), ففي هذا الخطاب القرآني يتضح دلالة العيد وأن التكرار ماهية واضحة للعيد؛ باعتبارهم طلبوها ليعيدوا فيها ويستذكرونها في كل عام فهو لأولهم وآخرهم جيلا بعد جيل.
إن فرحة العيد تنسينا مشقة الصوم وساعات الجوع والعطش, وهذا الامر فيه من العبرة ما يناسب أن نتعلم منه بأن مشقة الطاعة تنتظرها فرحة اللقاء بين العبد ومولاه, وإن المعصية مردها الفضيحة كما المفطر الذي فاته الشهر الفضيل, وهذا بحد ذاته ينمي الطاقة الايجابية التي نحتاجها عاماً بعد عام لنصبر على الشهر الفضيل؛ بل إن نماء الطاقة الايجابية دفعت بالمؤمنين ليستأنسوا بلذة الجوع والعطش بعد أن أدركوا أنهم بعين الله وتنتظرهم الكرامات الكثيرة التي وعد الله بها عباده الطائعين, وأولها فرحة العيد فللصائم فرحتان كما أفادت الروايات واحدة عند الافطار وأخرى عند لقاء الكريم جل وعلا.
وعلى الرغم من إن العيد ممارسة عبادية إلا إن الله تعالى لم يجعلها دون ضوابط وأحكام؛ فيبدأ العيد بليلة عظيمة تتخللها الكثير من الدعوات والطاعات؛ ليتأهل المكلف إلى استقبال يوم العيد العظيم, والله تعالى حبى العيد بصنوف التشريف بعد أن خصصها موسما للطاعة يبدأ بالغسل كإشارة إلى التطهير والرقي, ويرتقي إلى مختلف العبادات المتنوعة التي يتوفق إليها من أخلص لله تعالى في دعوته ومناجاته, ويتغافل عنها من كان همه انقضاء الشهر بعد أن أفرط في التسويف ولم يتوفق إلى التوبة حتى فاته الشهر فكان ممن تهدد بقول رسول الله صلى الله عليه وآله: ((من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له إلا إلى قابل أو أن يشهد عرفة)).
أن فرصة العيد كبيرة لنكون ممن نظر إلهم الله تعالى فغفر لهم, ومن المناسب أن ندرك أن الله تعالى جعل بعض السلوكيات الاجتماعية عبادة في العيد, ومن ذلك التسامح والتزاور والتودد والاهداء, سيما مع من نجح الشيطان بخلق فواصل بيننا وبينهم, فموسم العيد العائد علينا جميعا بالمغفرة والقبول فرصة للاستثمار الاخلاقي والاجتماعي, وإن فرصة توزيع الصدقات أو الزكاة عيد الفطر يمنح قوة وصلابة وتماسكاً للمجتمع الاسلامي يتناسب مع الرؤية الاسلامية والتربية القرآنية؛ لنصل إلى أن المسلمون كالجسد الواحد يكمل بعضهم البعض الآخر.
إن العيد من جوائز الله تعالى لعباده المطيعين والصائمين؛ فليس من المناسب أن يسرف البعض فيه بالمعصيات؛ بل علينا أن نحافظ على المكتسبات الايمانية التي متَّعنا بها الشهر الفضيل, وينبغي أن ندرك أن كلما وقفنا عليه من المقامات والدرجات أمانة في أعناقنا وعلينا أن نحافظ عليها, وعلينا أن نكون أكثر حذرا؛ لأن الشيطان ماهر في أن يجرنا إلى مستنقعات الفساد والمعصية وبوسائل مهنية فنضيِّع ما تم بناءه من العلاقة الصالحة والحسنة بيننا وبين ربنا الذي أكرمنا بأن جعلنا من أهل الشهر الفضيل؛ ليغدق علينا بجوائزه الكريمة, ويفتتحها بالعيد الذي نطمح أن يكرره علينا ونحن على سلامة من الدين والدنيا إنه سميع مجيب.