يختلف المسلمون اليوم في البسملة فمنهم من جعلها جزءًا من القرآن الكريم، ومنهم من قال هي ليست من القرآن، ثمَّ اختلف القائلون بجزئيتها بين من أوجب الجهر فيها بالصلاة وبين من أوجب الإخفات فيها، ولو تتبَّعنا الأُسس الأولى لهذا الاختلاف لوجدناها سياسية بحتة، افتعلها بنو أميَّة مخالفةً لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)
الذي كان يبالغ بالجهر فيها، فقد روي عنه (أنه كَانَ إِذَا افْتَتَحَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ يَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ تَرَكَ قِرَاءَتَهَا فَقَدْ نَقَصَ، وكان يقول: هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم) وكان مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) ((الْجَهْرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ)) وقد أجمع آل محمد
(صلوات الله عليهم) على ذلك . ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) وحده يجهر بالبسملة، وإنَّما نُقل ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر، وعمر، والناقل لذلك أنس بن مالك ، ثمَّ ما لبث أنس أن غيَّر رأيه في هذه المسألة حتَّى اضطرب في الرواية بشأن حكم الجهر بالبسملة ويبدو أنَّ بني أميَّة هم من
اضطروا أنسًا إلى تبديل رأيه، وذلك ((أَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الدَّوْلَةُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بَالَغُوا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْجَهْرِ، سَعْيًا فِي إِبْطَالِ آثَارِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، فَلَعَلَّ أَنَسًا خَافَ مِنْهُمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ فِيهِ)) وممَّا يدلُّ على ذلك: ((أنَّ معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة
يجهر فيها، ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كلِّ ناحية: أنسيت! أين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)) وروي أيضا أنَّ معاوية صلى ((بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، وقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كلِّ مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها)) وهكذا رسَّخ معاوية سُنته بين المسلمين، وصدقت نبوءة المهاجرين بسرقة معاوية للصلاة .
ومع التسليم بما ورد عن أنسٍ وبحصول التعارض بينه وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) فنتساءل أيُّهما أولى بالاتِّباع، ويجيبنا على ذلك الفخر الرازي (606 هـ) بقوله: ((فَإِنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ أَوْلَى، فَهَذَا جَوَابٌ قَاطِعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ)) ثمَّ يُضيف فيقول: ((وَأَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ قَوِيَّةٌ فِي نَفْسِي رَاسِخَةٌ فِي عَقْلِي لَا تَزُولُ الْبَتَّةَ بِسَبَبِ
كَلِمَاتِ الْمُخَالِفِينَ.... وَأَمَّا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ [عليه السلام] كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَمَنِ اقْتَدَى فِي دِينِهِ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدِ اهْتَدَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ [صلى الله عليه وآله وسلم]: اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ حَيْثُ دَارَ))، ويستمر الفخر الرازي في عرض الأدلة متبنيًا رأي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فيقول:
((إنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوَافِقَةٌ لَنَا، وَعَمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) مَعَنَا، وَمَنِ اتَّخَذَ عَلِيًّا إِمَامًا لِدِينِهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ)) . وليت المسلمين اتَّبعوا الفخر الرازي باستدلالاته المنطقية، ولكنَّ فرقةً كبيرةً منهم تدَّعي أنَّها تتابع السلف قد نكصت على عقبيها واتَّبعت بني أمية في سنَّتهم القاضية بإخفات البسملة
في الصلاة، وهم بسيرتهم هذه لم يتَّبعوا سيرة السلف الصالح من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنَّما اتَّبعوا السلف من بني أميَّة فساء ما يتَّبعون . ومن هنا فإنَّنا نوصي من يسمعنا من المسلمين كافَّة بالتدقيق بعقائدهم وأصولها المعرفية وعمَّن أخذوها فإنَّ السياسة قد أخلَّت وأضلَّت حتَّى جعلت الباطل مُتَّبعًا، والحقَّ
متروكًا لا يُعمل به حسدًا من عند الحكَّام لمن كان رائدًا للحقِّ وناطقًا به . والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطاهرين...
الدكتور :عمار الخزاعي