د. عمَّار حسن الخزاعي
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
تداول كثيرٌ قضية مقتل الحسين (عليه السلام) والجهة المنفِّذة له، وقد قُيِّدت الأسماء التي حاربت الحسين (عليه السلام) في بطون الكتب منذ وقتٍ مبكِّرٍ جدًّا، ولكن في الآونة الأخيرة بدأت تظهر إشاعات حول انتماء الجهة التي قاتلت الحسين (عليه السلام)، وصارت أصابع الاتّهام تشير إلى أنَّ الذين قتلوا الحسين (عليه السلام) هم الشيعة أنفسهم، وذلك بعد أن بايعوه وأرسلوا له الرسل بأن أينعت الثمار وحان حين الثورة على بني أميَّة، وبعد أن أتى الحسين (عليه السلام) إلى العراق خذله من راسله، وباعوه بثمنٍ بخسٍ بأموالٍ معدودةٍ ووعودٍ كاذبةٍ ببعض الولايات، وقد ادعوا على هؤلاء بأنَّهم من الشيعة وصاروا يسوقون ذلك إعلاميًّا بشتَّى الوسائل، وأكثر من يدَّعي هذا الأمر هم أتباع بني أميَّة وأنصار آل أبي سفيان، وقد ردَّ كثيرٌ من المنصفين هذا الافتراء من الشيعة وغيرهم بأدلَّةٍ وبراهين كثيرة، وعلى الرغم من ذلك فهم يحاولون تسويقه مع كلِّ حين بغية إقناع بعض الجهلة المصدِّقين بافتراءاتهم، واليوم أريد أن أردَّ على هذا الافتراء بنمطٍ آخر أُثبت به أنَّ آل بني أُميَّة ومن يشايعهم هم من قتل الحسين (عليه السلام) بأدلَّةٍ جديدةٍ من مدونة القوم أنفسهم، ومن وحي معركة الطفِّ التي صورتها أقلامهم، ولن أذهب إلى ترجمة من قاتل الحسن (عليه السلام) حتَّى أُثبت أنَّه كوفي أو شامي، وإنَّما سأصغي السمع لهتافات المعركة التي سجلوها بأقلامهم، وهناك سنسمع هتافاتٍ تنادي بـ (أنا عَلَى دين علي) تقابلها هتافاتٍ بلون آخر من الجانب المقابل بـ (أنا عَلَى دين عُثْمَان)، وهناك من ينادي بـ (يا لثارات الحسين) تقابلها هتافاتٍ بـ (يا لثارات عثمان)، وهنا ترتسم صورة كلا الفريقين، فمن هو على دين عليٍّ وينادي بثارات الحسين هو من شيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والطرف المقابل الذي يدين بدين عثمان بن عفان وينادي بثاراته يكون من أتباع بني أميَّة ومن شيعة آل أبي سفيان، ومن هنا سنبحث عن مصادر هذه الهتافات لنرى أصحابها في أيِّ جهةٍ ومع أيِّ فريقٍ يُقاتلون، وبذلك نعرف الجهة التي كانت تقاتل الحسين (عليه السلام) من الجهة التي كانت تصطفُّ معه وتُقتل دونه، ولقد نقل لنا التاريخ هذه الهتافات مقرونةً بأصحابها بحوادث متفرِّقةٍ، ومن تلك الحوادث ما نقله يَحْيَى بْنُ هانئ بن عروة، عن نافع بن هلال، وهو أحد أنصار الحسين (عليه السلام) في يوم كربلاء، و((كَانَ يقاتل يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي، قَالَ: فخرج إِلَيْهِ رجلٌ يقال لَهُ مزاحم بن حريث، فَقَالَ: أنا عَلَى دين عُثْمَان، فَقَالَ لَهُ: أنت عَلَى دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله))(1)، وفي حادثةٍ أُخرى جرت بين برير بن خضير، وهو أحد أنصار الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء، مع يَزِيد بن معقل، وهو من المقاتلين للحسين (عليه السلام)، وفحوى تلك الحادثة أنَّ يَزِيد بن معقل من بني عميرة بن رَبِيعَة قال: ((يا برير بن حضير، كيف ترى اللَّه صنع بك! قَالَ: صنع اللَّه وَاللَّهِ بي خيرًا، وصنع اللَّه بك شرًا، قَالَ: كذبت، وقبل الْيَوْم مَا كنت كذَّابًا، هل تذكر وأنا أماشيك فِي بني لوذان وأنت تقول: إنَّ عُثْمَان بن عَفَّانَ كَانَ عَلَى نفسه مسرفًا، وإن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ ضالٌ مضلٌ، وإن إمام الهدى والحق عَلِيّ بن أبي طالب؟ فَقَالَ لَهُ برير: أشهد أنَّ هَذَا رأيي وقولي، فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن معقل: فإنِّي أشهد أنَّك من الضالين، فَقَالَ لَهُ برير بن حضير: هل لك فلأباهلك، ولندع اللَّه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثُمَّ اخرج فلأبارزك، قَالَ: فخرجا فرفعا أيديهما إِلَى اللَّهِ يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثُمَّ برز كلُّ واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يَزِيد بن معقل برير بن حضير ضربةً خفيفةً لم تضره شَيْئًا، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنَّما هوى من حالق، وأن سيف ابن حضير لثابت فِي رأسه، فكأني أنظر إِلَيْهِ ينضنضه من رأسه))(2) .
والآن قد تبيَّن الفريق الذي كان يُقاتل الحسين (عليه السلام) من الفريق الذي ينصره، بأدلَّةٍ من كتب القوم، وصار الأمر واضحًا وبيِّنًا أنَّ الشيعة هم من نصروا الحسين (عليه السلام) وأن بني أميَّة وأشياعهم هم من قتل الحسين (عليه السلام)، ولم يقف الأمر عند هذا الحد وإنَّما استمرَّ حتَّى بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) عندما ثار المطالبون بثأره وكانوا ينادون يا لثارات الحسين، فيجيبهم أنصار بني أميَّة قائلين: يا لثارات عثمان(3) .
وإلى هنا عزيزي القارئ قد تبيَّن القاتل الحقيقي للحسين (عليه السلام) بالنقل الحي لصورةٍ من صور المعركة، وكذلك الجهة التي ينتمي إليها ويُنادي بأحقيتها، على أنَّ نداءاته لم تكن عفويةً أو موجَّهة من لدن مجموعةٍ من الناس حتَّى يمكن الحكم عليهم بالجهل، وإنَّما كان على اعتقادٍ وإيمانٍ راسخ بأنَّهم على المنهج القويم المستند على دين عثمان وآل أبي سفيان، بحيث يُباهل ويدعو على الكاذب ثمَّ يبارز على أساس هذا المدَّعى، ولكنَّ الله تعالى خذله ناصرًا من يدعو إلى دين عليِّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام) .
جعلنا الله تعالى وإيَّاكم من المتمسكين بنهج أمير المؤمنين عليٍّ وأولاده (عليهم السلام) .
(1) تاريخ الطبري - تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري: 5/435 .
(2) المصدر نفسه: 5/431 .
(3) المصدر نفسه: 6/50 .