دور التهجد في الإعداد الروحي لخوض المهمات وتحمل الملمات
كثيراً ما يتعرض الإنسان لحوادث مختلفة خلال فترة حياته، منها حوادث قد ألمت به كالفقر والمرض والعسر وغيرها من الشدائد ونوازل الدهر.
ومنها ما لم يقع كالخروج للقتال فلا يعلم الإنسان مصيره ولا يدري لمن النصر والهزيمة؛ أو كالدخول على الحاكم الجائر لا يدري الداخل ما يحل بأمره وغيرها من مهمات الأمور.
هذه الحوادث كيف يستقبلها الإنسان؟ وكيف يتعايش معها؟ وماذا أعد لها؟ وهل يمتلك القدرة في المواجهة؟ أسئلة كثيرة ومختلفة كاختلاف الظروف والحالات التي يمر بها الإنسان؛ كما أن أجوبتها متعددة كتعدد الأسئلة، وكلها يمكن حدوثها لاختلاف مستوى التفكير عند الناس واختلاف ظروفهم الحياتية.
إلا أن عاشوراء قد قدمت دروساً تضمنت جميع هذه الأسئلة وأجوبتها! لأنها جمعت أعظم الشدائد والنوازل على مر الدهر. ولاسيما ليلة العاشر فقد ألقت بهمومها وأحزانها وحذرها على الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، فكيف استقبلها حجة الله؟ وماذا أعد لهذه النازلة والشدة؟!.
سؤال قد فرض نفسه في ساحة الذهن وألقى بظلاله على فكر الباحث والمتتبع لقضية كربلاء وما دار فيها من مآسٍ ومهام جسيمة أرهقت كاهل القارئ لها فكيف بمن عاشها وعايشته حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ملحمة عاشوراء.
ولذا؛ فقد أعد الإمام الحسين عليه السلام لهذه النازلة العظيمة ركائز أربعاً، اشترك فيها الزمان والمكان فكانت كالآتي:
أولاً: الصلاة.
ثانياً: تلاوة كتاب الله تعالى.
ثالثاً: كثرة الدعاء.
رابعاً: الاستغفار.
فأما الزمان الذي اتخذه حجة الله في قيام هذه الركائز؟ فكان الليل، والعلة في ذلك هي النهج الذي خطه القرآن الكريم للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله في تخصيص هذا الوقت للتزود بالطاقات والفيوضات الربانية والتي عرفها القرآن بـ«التهجد» كما جاء في قوله تعالى في (سورة الإسراء، الآية: 79): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}.
وقوله تعالى في (سورة المزمل، الآيات: 1 ــ 6): {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}.
ولقد حظي التهجد في مدرسة العترة المحمدية عليهم السلام بحيز كبير من الأحاديث الشريفة التي كانت بمجموعها دليلاً عملياً للمؤمنين في نظم أمورهم الدنيوية والأخروية وإعدادها.
فالتهجد ليس مجرد قيام وصلاة في جوف الليل يتحمل فيه القائم عناء السهر، وإنما هو ــ في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ــ منهج للإعداد النفسي، والروحي، والإيماني، والجسدي.
ويمكن للباحث المتتبع أن يلمس هذا الإعداد للنفس والروح والجسد من خلال هذه الأحاديث التي كشفت هذه الخواص بشكل جلي، وهي كما يلي:
1. نزل جبرائيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله، فقال له: «يا جبرائيل عظني،فقال: «يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه. شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه كف الأذى عن الناس» (من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 1، ص 471).
2. وعن الصادق عليه السلام قال: «إن من روح الله عز وجل، ثلاثة: التهجد بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان» (الأمالي للطوسي: ص 172).
3. وعنه عليه السلام ، قال: «عليكم بصلاة الليل فإنها سنة نبيكم، وأدب الصالحين قبلكم، ومطردة الداء عن أجسادكم» (ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: ص 41).
4. وروى هشام بن سالم عنه عليه السلام أنه قال: «في قول الله عزوجل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}، قال: قيام الرجل عن فراشه يريد به وجه الله عزوجل، لا يريد به غيره» (علل الشرايع للصدوق: ج 2، ص 363).
ولأجل هذه المزايا وغيرها اتخذ الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء، ليلة للمناجاة والصلاة وتلاوة كتاب الله تعالى، وكثرة الدعاء والاستغفار، والتزود بالطاقات والفيوضات الإلهية.
فكان هو وأصحابه عليهم السلام بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ، لهم دوي كدوي النحل لا يفترون من ذكر الله تعالى ومناجاته والتضرع إليه، والرهبة منه، والتبتل إليه، والابتهال له، عزّ شأنه راجين في ذلك رضاه ورضا رسوله صلى الله عليه وآله ملتمسين توفيقه في نصرة شرعه ودينه.
فكان لهم ما سألوا الله من أجله، فقد أجاب دعوتهم فمضوا مضرجين بدمائهم مجزرين كالأضاحي في ساحة قدسه في البقعة المباركة من جانب الطور الأيمن، ضحىً من يوم عاشوراء.